ليست المشكلة – كما قد يُخيّل للبعض – في أن يطلب خالد مشعل علنًا من الإدارة الأمريكية أن تتعامل مع حركة حماس كما تعاملت مع أحمد الشرع في سوريا.
وليست المشكلة في الانتقال من خطابٍ ثوري صدامي مشحون بالعواطف وبيع الوهم إلى خطابٍ براغماتي ، ولا حتى في الاستعداد لتقديم تنازلات سياسية كبرى.
فالتاريخ السياسي مليء بحركات راجعت، وتحوّلت، وتخلّت عن شعاراتها الأولى حين اصطدمت بالواقع.
المشكلة الحقيقية أعمق من ذلك بكثير.
المشكلة تكمن في توقيت البراغماتية الحمساوية ، وفي انتقائيتها، وفي السؤال الأخلاقي الذي يفرض نفسه بقوة:
لماذا كانت العقلانية خيانة حين كان الدم الفلسطيني يُسفك؟؟،
وأصبحت فجأة حكمةً ونضجًا سياسيًا حين صار التنظيم نفسه مهددًا؟
حين كانت المجازر تُرتكب بحق أهلنا في غزة ،
كان الخطاب خشبيا واحدًا لا يتغير:
اصمدوا… انتصروا… لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة ،،فازوا باحدى الحسنيين،،أتتوعدنا بما ننتظر ياابن اليهودية ،،العدو غارق في رمال غزة ،،خسائرنا تكتيكية ،،مستمرون حتى اخر طفل.
وكان كل من يطرح سؤالًا، أو يتأفف، أو يشكك في جدوى المسار، يُصنّف فورًا:
متخاذل، عميل، مهزوم، فاقد للإيمان.
أما اليوم،
وحين بات التنظيم أمام تهديد الوجود وتعمقت هزيمة حماس اكثر ،
ظهرت فجأة مفردات سياسية جديدة لم نعهدها بالسابق :
العقلانية، البراغماتية، الانفتاح، الواقعية، وتقديم التنازلات.
هنا لا نتحدث عن مراجعة فكرية،
ولا عن نضج سياسي،
ولا عن تحول أخلاقي.
بل عن شيء أقرب إلى الانتهازية العارية:
حين يكون الثمن دم الناس، فالشعارات مقدسة،
وحين يصبح الثمن هو الكرسي، فكل شيء قابل للتفاوض.
يطلب خالد مشعل دون خجل أن يُمنح فرصة كما مُنحت لأحمد الشرع،
الذي استُقبل في البيت الأبيض، لا بشعارات المقاومة، بل بمنطق الدولة.
لكن المقارنة هنا تفضح أكثر مما تُبرر.
أحمد الشرع – مهما اختلفنا أو اتفقنا معه –
قدّم مقدمات سياسية وميدانية ودبلوماسية:
ابتعد عن خطاب الجماعات العابرة للدولة،
قطع مع الإرث الأيديولوجي المغلق،
وأعلن – صراحة أو ضمنًا – القطيعة مع منطق الوصاية الإقليمية.
أما السؤال الذي يفرض نفسه على القارئ الفلسطيني بنور العقل وليس بحرارة العاطفة:
• هل غادر خالد مشعل فعلًا ماضيه وسلوكه الإخواني، كما غادر الشرع إرث القاعدة والنصرة؟
• هل هو مستعد لقطع علاقته بإيران وحزب الله، كما قُطعت في سوريا، أم أن البراغماتية هنا لها سقف انتقائي؟ما هي بضاعة مشعل التي يرغب ببيعها لترامب مقابل قبوله اعطاء الفرصة لحماس؟
• ولماذا تبدو منظمة التحرير الفلسطينية – لا الاحتلال – هي العدو الثابت في خطاب حماس وسلوكها؟
الأخطر من كل ما سبق ليس الاستعداد للتنازل،
بل طبيعة التنازل واتجاهه.
التجربة تقول إن حماس مستعدة للتفاهم مع أي طرف يضمن بقاء حكمها،
حتى لو كان هذا الطرف هو أقصى اليمين الإسرائيلي،
لكنها غير مستعدة – حتى اللحظة – لتسوية وطنية حقيقية مع منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية.
وهنا يبرز السؤال الذي لا يملك القارئ الصادق الهروب منه:
هل القضية هي فلسطين؟
أم أن فلسطين أصبحت وسيلة،
والسلطة هي الغاية؟
هذا المقال لا يطلب من القارئ أن يكره،
ولا أن يشتم،
ولا أن ينفعل.
بل يطلب منه فقط أن يفكر.
أن يسأل:
لماذا كانت المراجعة خيانة بالأمس،
وصارت فضيلة اليوم؟
ولصالح من تُفتح الأبواب المغلقة؟
ومن يدفع ثمن التأخير في هذه “العقلانية المفاجئة”؟
حين نصل إلى الإجابة بصدق،
سنكتشف أن ما جرى ليس بيعًا للشعارات فقط،
بل تخليًا عن الناس لصالح التنظيم،
وأن الانبطاح الحقيقي
ليس في تغيير الخطاب،
بل في استخدام الدم كوقودٍ للسلطة،
ثم البحث عن النجاة في أحضان من كان يُقدَّم بالأمس كعدو مطلق.
والسؤال الأخير يُترك للقارئ، لا للكاتب:
هل هذه مقاومة؟
أم مجرد صراع على البقاء… بأي ثمن؟










