وفق بيانات رسمية، يعاني نحو 11 ألف جندي وجندية من اضطرابات نفسية منذ 7 أكتوبر 2023
آلاف الجنود والضباط الإسرائيليين، من الصفوف الأمامية ومحاربي الاحتياط، يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة منذ هجوم 7 أكتوبر 2023، ويقيمون مخيمات احتجاجية أمام الكنيست للمطالبة بالاعتراف بحقوقهم وتسريع الوصول إلى خدمات الصحة النفسية. التقرير يكشف عن آثار نفسية عميقة، معدلات انتحار مرتفعة، قصص مؤلمة من الميدان، وابتكارات علمية مثل برامج التدريب الرقمي لتقليل خطر الإصابة بالاضطراب النفسي بين الجنود، في ظل أزمة مستمرة غير مرئية على نطاق واسع
على بُعد أمتار قليلة من مقر الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) في القدس، أقام جنود وضباط احتياط ومحاربون قدامى يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة مخيمًا احتجاجيًا، للمطالبة بمزيد من الحقوق، وتسريع الوصول إلى خدمات الصحة النفسية، ولفت انتباه الرأي العام إلى معاناتهم التي توصف غالبًا بأنها «غير مرئية».
يقول محامٍ إسرائيلي تحدث لوسائل إعلام إيطالية من داخل المخيم:
«يطلق عليهم اسم غير المرئيين، لأن جراحهم النفسية لا تُرى بالعين. وهذه هي المعضلة الأساسية. حتى الآن، لا يوجد في إسرائيل قانون يتعامل بشكل صريح ومباشر مع اضطراب ما بعد الصدمة».
ويضيف: «هؤلاء كانوا جنودًا في الصفوف الأمامية، والآن يضطرون لخوض معركة داخل بيوتهم للحصول على اعتراف رسمي بحقوقهم. ليس سهلًا أن تكون جندي مشاة، أن ترى ما رأوه، ثم تعود فجأة إلى حياة طبيعية. بعضهم ينجح، والبعض الآخر لا. هم لا يطالبون بأموال، بل فقط بالاعتراف وبقليل من الدعم. هذه المشكلة ليست إسرائيلية فقط، بل عالمية. عندما ترى شخصًا فقد ذراعًا أو ساقًا، تتعاطف معه فورًا، أما هؤلاء فيبقون غير مرئيين لأن آلامهم داخلية. نحن بحاجة إلى تغيير كامل في النظام، وبشكل عاجل».
اضطراب ما بعد الصدمة… معركة لا تنتهي بانتهاء القتال
يُعد اضطراب ما بعد الصدمة حالة نفسية قد تصيب العسكريين بعد مشاركتهم في معارك عنيفة، أو تعرضهم لانفجارات، أو مشاهدتهم لزملاء مصابين أو قتلى. وحتى بعد خروجهم من ساحة القتال، يعانون من كوابيس، واسترجاع قهري للذكريات، وشعور دائم بالخطر.
ومن العوامل التي تزيد من احتمالية الإصابة ما يُعرف بـ«التحيز الانتباهي للتهديد»، حيث يظل الجندي في حالة ترقّب دائم لأي خطر، حتى بعد زوال التهديد الفعلي.
وبحسب ما أعلنه قسم إعادة التأهيل بوزارة الدفاع الإسرائيلية في 8 ديسمبر، فقد جرى منذ 7 أكتوبر 2023 علاج نحو 22 ألف جندي مصاب، يشكّل جنود الاحتياط نحو 63 في المئة منهم، ويعاني أكثر من نصفهم من اضطرابات نفسية.
وأفادت الوزارة بأن 58 في المئة ممن تلقوا العلاج في مراكز إعادة التأهيل منذ بدء العمليات العسكرية في غزة يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة أو مشاكل نفسية أخرى.
أرقام وميزانيات… وحجم الأزمة يتسع
تبلغ ميزانية قسم إعادة التأهيل نحو 8.3 مليارات شيكل (قرابة 2.57 مليار دولار)، خُصص منها 4.1 مليارات شيكل (1.27 مليار دولار) لعلاج الصحة النفسية تحديدًا.
وفي سبتمبر الماضي، أعلنت وزارتا المالية والدفاع عن تشكيل لجنة جديدة لتوسيع برامج الدعم المقدمة للمحاربين القدامى. ووفق التقديرات الرسمية، من المتوقع إضافة 10 آلاف مصاب جديد بحلول نهاية عام 2026، غالبيتهم يعانون من اضطرابات نفسية.
شهادات من الميدان… آثار لا تزول
داخل مخيم الاحتجاج أمام الكنيست، يوجد جنود خدموا تحت قيادة آساف حمّامي، قائد اللواء الجنوبي في غزة، الذي قُتل في 7 أكتوبر 2023 أثناء دفاعه عن كيبوتس نيريم، قبل أن يُعاد جثمانه من غزة في نوفمبر 2025 ضمن التهدئة الجارية.
يروي أحد الجنود المصابين باضطراب ما بعد الصدمة:
«في العاشرة صباحًا يوم 7 أكتوبر، اتصل بنا حمّامي وطلب منا القتال. كانت حربًا قذرة. لم يكن القتال بالسلاح فقط. مقاتلو حماس أخذوا أطفالًا إسرائيليين رهائن واستخدموهم دروعًا بشرية للعودة سالمين إلى غزة، ولذلك لم نتمكن من إطلاق النار».
وبحسب الأرقام الإسرائيلية، أسفر هجوم 7 أكتوبر عن خطف 251 شخصًا، بينهم نحو 30 طفلًا، ومقتل قرابة 1200 شخص.
ويضيف الجندي نفسه:
«قاتلت في غزة خلال الانتفاضة الثانية، ورأيت بعيني كيف استخدمت حماس حتى الأطفال الفلسطينيين كدروع بشرية. نحن هنا لزيادة الوعي. الإصابة النفسية لا تظهر مثل بتر الأطراف أو الجروح بالرصاص».
ويستطرد بقصة مؤلمة:
«في 7 أكتوبر، اضطرت صديقة لنا، شرطية شابة جدًا، للتعامل مع رضيع شُق بطنه. بعد ذلك بأشهر تزوجت وأنجبت طفلًا، لكنها لا تستطيع حمله بين ذراعيها، لأن الذكريات تعود إليها بقوة».
أرقام صادمة عن الانتحار داخل الجيش
وفق تقرير نشره مركز الأبحاث والمعلومات التابع للكنيست نهاية أكتوبر، انتحر 36 جنديًا إسرائيليًا بين يناير 2024 ويوليو 2025، بينما حاول 279 آخرون الانتحار.
وأشار التقرير، الذي أُعد بطلب من النائب اليساري المتطرف عوفر كسيف، إلى أنه مقابل كل حالة انتحار سُجلت سبع محاولات فاشلة.
وشكّل الجنود المقاتلون 78 في المئة من حالات الانتحار في 2024، مقارنة بنسبة تراوحت بين 42 و45 في المئة خلال الأعوام 2017–2022. ويُعزى هذا الارتفاع جزئيًا إلى الاستدعاء الواسع لقوات الاحتياط بعد هجوم 7 أكتوبر.
رغم كل شيء… «سنعود للقتال فورًا»
يؤكد الجنود المحتجون أنهم سيعودون إلى القتال في غزة دون تردد إذا طُلب منهم ذلك:
«نعم، سنعود فورًا. ما حدث لشعبنا كان فظيعًا. ذهبنا للدفاع عنه، وسنفعل ذلك مرة بعد مرة».
أمل علمي… تدريب رقمي يقلل خطر الإصابة
وفي تطور لافت، كشفت دراسة نُشرت في مجلة American Journal of Psychiatry أن برنامج تدريب انتباه قائم على الحاسوب يمكن أن يقلل خطر الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة بين جنود المشاة الإسرائيليين بشكل كبير.
الدراسة، التي شاركت فيها جامعة تل أبيب وسلاح الطب في الجيش الإسرائيلي ووزارة الدفاع الأميركية، أظهرت أن 1 في المئة فقط من بين أكثر من 500 جندي خضعوا للتدريب أصيبوا بالاضطراب، أي انخفاض في الخطر بنحو خمسة أضعاف.
وأوضح الباحث يائير بار-حاييم أن البرنامج يعتمد على توجيه انتباه الجندي إلى التهديدات، معتبرًا أن الانتباه للخطر آلية أساسية للبقاء.
يُذكر أن البرنامج طُبق في الجيش الإسرائيلي عام 2018، لكنه أُوقف قبيل اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023.
الجنود الإسرائيليون الذين خاضوا معارك غزة في أكتوبر 2023 يعيشون اليوم حربًا أخرى داخل أنفسهم، ضد اضطراب ما بعد الصدمة. المخيمات الاحتجاجية أمام الكنيست، الإحصاءات المروعة، والبحوث الحديثة تشير إلى أزمة متنامية لم تحظَ بالاهتمام الكافي بعد. هذه المعاناة النفسية العميقة تُظهر أن جروح الحرب لا تقتصر على الجسد، بل تمتد إلى العقل والنفس، وأن الدعم الفعلي والسريع ضرورة قصوى لحماية هؤلاء الجنود وعائلاتهم من تبعات لا تنتهي.










