رحيل المخرج الكبير داوود عبد السيد أعاد فتح ملف “فيلسوف السينما المصرية” بتفاصيل إنسانية وفنية تعكس حجم الخسارة التي لحقت بالمشهد الثقافي برحيله عن عمر يناهز 79 عامًا بعد صراع مع المرض.
وبين شهادات المقربين، ونعيات المؤسسات الرسمية، وإعادة نشر حواراته عن الاعتزال وأزمة السينما، تحوّل وداع صاحب “الكيت كات” و”أرض الخوف” إلى لحظة تأمل واسعة في مصير سينما المؤلف في مصر والمنطقة.
تفاصيل الرحيل والوداع
رحل داوود عبد السيد في منزله، كما أكدت أسرته ووسائل إعلام مصرية، بعد معاناة مع الفشل الكلوي وأزمة صحية استمرت شهورًا، لتعلن نقابتا المهن السينمائية والتمثيلية الخبر وتنعياه باعتباره واحدًا من أهم مخرجي السينما المصرية المعاصرة.
ومن المقرر تشييع جثمانه من كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة، مع إقامة عزاء رسمي وشعبي يحضره رموز الفن والثقافة، في مشهد يليق بتاريخه الذي امتد عقودًا.
منصات إعلامية عربية ودولية نعت المخرج الراحل، ووصفت رحيله بأنه خسارة كبيرة للسينما العربية، مشيرة إلى أن أفلامه القليلة نسبيًا صنعت بصمة نادرة على شريط السينما، وأن اسمه بات مرتبطًا بفكرة “سينما التأمل” التي تحفر في الإنسان والمجتمع أكثر مما تطارد شباك التذاكر.
كما امتلأت مواقع التواصل بصور من أفلامه وبمقاطع من حوارات قديمة كان يحذر فيها من مستقبل السينما إذا ظلت حبيسة منطق السوق والرقابة الصارمة.
آخر التصريحات: اعتزال قسري و”مفيش سينما بلا حريات”قبل رحيله بوقت غير بعيد، كان داوود عبد السيد محور نقاش واسع بعد تصريحاته عن اعتزال الإخراج، والتي بررها بأنه لم يعد يجد المناخ الذي يسمح له بتقديم السينما التي يؤمن بها.
في حوار أعيد نشره عقب وفاته، قال بوضوح إن “السينما تغيرت، والجمهور الذي كانت تخاطبه أفلامه – الطبقة المتوسطة – تآكل، ولم يعد مستعدًا لدفع ثمن تذكرة لفيلم من نوع ما يقدمه”.
في حوار آخر، أكد أن “مفيش سينما بلا حريات”، منتقدًا ما وصفه بـ”نظام احتكاري في الإنتاج” و”رقابة بشعة” تجعل العمل صعبًا على الأجيال الجديدة أكثر مما هو عليه بالنسبة لجيله.
الرجل – كما أوضح بنفسه – لم يكن يحتج من أجل ذاته بقدر ما كان يصف وضعًا عامًا يرى أنه يخنق تجارب الشباب، ويحوّل السينما إلى مساحة ضيقة إما للتسلية الخالصة أو لأفلام ممولة تُختار وفق رؤية الممول لا الجمهور.
مسيرة فريدة: من الوثائقي إلى “الكيت كات” و”أرض الخوف”بدأ داوود عبد السيد مشواره مساعد مخرج مع أسماء كبرى مثل يوسف شاهين في “الأرض” وكمال الشيخ في “الرجل الذي فقد ظله”، قبل أن يتجه إلى السينما التسجيلية الاجتماعية.
حمل الكاميرا إلى القرى والحقول في أفلام مثل “وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم” و”العمل في الحقل” و”عن الناس والأنبياء والفنانين”، وهناك التقط علاقته الخاصة بالواقع المصري اليومي.
لاحقًا، انتقل إلى الأفلام الروائية الطويلة ليقدم أعمالًا باتت علامات في تاريخ السينما المصرية، من “الصعاليك” إلى “الكيت كات”، ومن “سارق الفرح” و”أرض الخوف” إلى “مواطن ومخبر وحرامي” و”رسائل البحر”، وصولًا إلى “قدرات غير عادية” الذي كان آخر أفلامه الروائية عام 2015.
عدد أفلامه لا يتجاوز – بحسب بعض الإحصاءات – 9 إلى 12 فيلمًا فقط، لكنه صنع بها مدرسة كاملة ترفض منطق “الجمهور عايز كده” وتؤمن بأن المتعة يمكن أن تتجاور مع الأسئلة الفلسفية والأخلاقية.
إرث فكري وسينمائي بعد الرحيل
اللافت في ردود الفعل على رحيل داوود عبد السيد أن الكثيرين لم يكتفوا باستدعاء عناوين أفلامه، بل عادوا إلى أفكاره عن علاقة الفن بالمجتمع والسياسة والحريات.
منتقدوه ومحبوه اتفقوا على أنه كان واحدًا من أكثر المخرجين وضوحًا في رفضه للتسطيح، وتمسكه بأن السينما يجب أن تطرح أسئلة، حتى لو كان ثمن ذلك هو الغياب عن شباك التذاكر والابتعاد عن الإنتاج لسنوات.
نعيات النقاد وصفته بـ”فيلسوف السينما” و”مخرج الكيف لا الكم”، في إشارة إلى أن كل فيلم كان مشروع سؤال مفتوح لا “منتجًا” قابلًا للتكرار.
ومع أن رحيله يُغلق صفحة مخرج لن يتكرر بسهولة، إلا أن كثيرين يعتبرون أن أفضل طريقة لوداعه ليست فقط في جنازته أو حلقات التأبين، بل في إعادة مشاهدة أفلامه وقراءة ما كتبه وما قيل عنه، لعلها تذكّر الأجيال الجديدة بأن السينما يمكن أن تكون أكثر من مجرد صورة لامعة على منصات العرض.










