تفنيد تاريخي وقانوني لقضية أرض الصومال يكشف زيف الخرائط المتداولة وسرديات الانفصال ويؤكد وحدة الدولة الصومالية وجذور الأزمة المرتبطة بالاستعمار والتدخلات الخارجية
انتشرت مؤخرًا على منصات إعلامية وتحليلية خرائط مشوّهة للصومال، لا تخطئ فقط في الجغرافيا، بل تُزيّف التاريخ وتختزل أزمة معقّدة في سردية دعائية تخدم مشروعًا سياسيًا واحدًا.
الحقيقة التي يتم تجاهلها عمدًا أن الصومال دولة فيدرالية واحدة، معترف بها دوليًا، وتتكوّن من سبعة أقاليم فدرالية تتمتع بدرجات متفاوتة من الحكم الذاتي، هي:
أرض الصومال، شمال شرق الصومال، بونتلاند، غلمدغ، هيرشبيلي، جنوب غرب الصومال، جوبالاند، إضافة إلى محافظة بنادر (العاصمة مقديشو).
الاستثناء الوحيد هو إقليم أرض الصومال، الذي يصف نفسه من طرف واحد بـ«الدولة المستقلة»، دون أي اعتراف دولي، ودون إجماع داخلي حتى داخل الإقليم نفسه.
انفصال بلا إجماع
الخطاب السائد في بعض وسائل الإعلام يوحي وكأن «أرض الصومال» كتلة سياسية واجتماعية متجانسة تطالب بالانفصال، بينما الواقع أكثر تعقيدًا:
الإقليم يضم قبائل كبرى ذات ثقل تاريخي واجتماعي، أبرزها: إسحاق، دولبهنتي، ورسنغلي، سمرون، غيدابورسي، العيسى، الغبوي.
لكن دعوة الانفصال لا تمثل كل هذه المكونات، بل ترتبط أساسًا بقبيلة واحدة هي إسحاق، وحتى داخلها ليست موقفًا جامعًا، بل قرار تفرضه فئة مسلحة متمثلة في مليشيات SNM التي تهيمن منذ عقود على القرار السياسي والإعلامي في الإقليم.
سردية المظلومية المُعاد تدويرها
منذ عام 1991، تعمل مليشيات SNM—بدعم إقليمي معروف—على إعادة إنتاج مظالم سياسية حقيقية عاشها الصوماليون جميعًا، لكنها تُقدَّم انتقائيًا لتبرير مشروع الانفصال.
ثلاثة عقود ونصف من غسيل الوعي الجمعي، أُعيد خلالها تشكيل ذاكرة الأجيال الجديدة داخل الإقليم، بحيث قُطع ارتباطها بالتاريخ الصومالي العام، وتحولت الهوية الوطنية إلى «قصة بديلة» تُلقَّن في المناهج والإعلام المحلي.
النتيجة ليست فقط غياب الحس الوطني، بل انزلاق أخلاقي خطير، جعل بعض النخب هناك تقبل بمقايضات صادمة—منها القبول بتهجير الفلسطينيين من غزة—في سبيل نيل اعتراف سياسي من كيان لا يعترف أصلًا بالقانون الدولي إلا بما يخدم مصالحه.
الاستعمار… الجذر المسكوت عنه
قضية «صوماليلاند» ليست وليدة اليوم، بل زرع استعماري بريطاني قديم.
السردية الانفصالية تبدأ غالبًا بجملة واحدة: «هذه كانت الصومال البريطاني».
هنا تكمن المشكلة: التاريخ، في هذا الخطاب، لا يبدأ إلا مع وصول المستعمر، وكأن الصومال لم يكن كيانًا اجتماعيًا وثقافيًا موحدًا قبل أن يرسم الإنجليز والإيطاليون خطوط نفوذ وهمية فوق أرض القبائل الصومالية.
عندما ناضل الصوماليون في الأمم المتحدة لإنهاء الاستعمار، لم يكن الهدف إنشاء كيانات منفصلة، بل توحيد كل الأقاليم الصومالية في دولة واحدة.
لكن بريطانيا تعمّدت تفكيك هذا المشروع:
• منحت إقليم الصومال الغربي لإثيوبيا،
• وأعطت إقليم NFD لكينيا،
• ثم منحت «صوماليلاند» الاستقلال الشكلي قبل غيرها بأيام، في خطوة محسوبة لزرع بذرة الانقسام.
في 26 يونيو 1960 رُفع العلم الصومالي في هرجيسا،
وفي 1 يوليو 1960 توحدت صوماليلاند مع الصومال الإيطالي لتُعلن جمهورية الصومال، وهو اليوم الذي جسّد فعليًا حلم الوحدة، لا الانفصال.
ما يُروَّج اليوم ليس «حق تقرير مصير»، بل مشروع سياسي أقلوي، يستند إلى خرائط خاطئة، وتاريخ مبتور، ودعم خارجي يبحث عن موطئ قدم في القرن الإفريقي.
أما الصومال، بكل أقاليمه وقبائله، فلا يزال—رغم الجراح—دولة واحدة، وقضية واحدة، وهوية لا يمكن تمزيقها بخطوط رسمها المستعمر أو باعترافات تُمنح خارج الشرعية.


توثيق التاريخ في مواجهة خرائط التزييف
في ظل هذا التشويش المتعمّد، تصبح العودة إلى المصادر التاريخية والقانونية ضرورة، لا ترفًا. فقضية الصومال و«أرض الصومال» ليست مسألة آراء أو سرديات إعلامية، بل ملف موثّق في أرشيف الأمم المتحدة، ومحاضر الاستقلال، وقرارات الوحدة، وكتابات المؤرخين الصوماليين والأجانب.
أولًا: الأساس القانوني الدولي
- قرار الأمم المتحدة بإنهاء الاستعمار عن الصومال (1959–1960) القرار كان واضحًا: إنهاء الاستعمار تمهيدًا لوحدة الأراضي الصومالية، لا لتفكيكها إلى كيانات مستقلة.
- وثيقة توحيد صوماليلاند مع الصومال الإيطالي – 1 يوليو 1960 وهي الوثيقة المؤسسة لجمهورية الصومال، المعترف بها دوليًا حتى اليوم، ولم يتم إلغاؤها أو الطعن فيها قانونيًا في أي محفل دولي.
- عضوية الصومال في الأمم المتحدة (1960)
قُبلت الصومال كدولة واحدة بحدود معترف بها، تشمل كامل أراضيها شمالًا وجنوبًا، دون أي استثناء لـ«أرض الصومال».
ثانيًا: المرجعيات التاريخية
- I.M. Lewis – A Modern History of the Somali أحد أهم المراجع الأكاديمية حول التاريخ الصومالي، ويؤكد أن الانقسام الحالي نتاج الاستعمار، لا تعبيرًا عن هويات سياسية مستقلة.
- Mohamed Haji Mukhtar – Historical Dictionary of Somalia يوثق بوضوح أن «صوماليلاند» كانت كيانًا إداريًا استعماريًا مؤقتًا، لا دولة قومية مستقلة.
- أرشيف الإدارة البريطانية (British National Archives)
يبيّن أن إعلان استقلال صوماليلاند في 26 يونيو 1960 كان إجراءً انتقاليًا تقنيًا، تمهيدًا للوحدة، لا مشروع دولة منفصلة.
ثالثًا: الموقف الإفريقي
- مبدأ الاتحاد الإفريقي بشأن الحدود الموروثة عن الاستعمار (1964 ينص بوضوح على احترام الحدود القائمة وقت الاستقلال لمنع تفكك الدول الإفريقية، وهو مبدأ يُسقط أي شرعية قانونية عن انفصال أحادي.
- مواقف الاتحاد الإفريقي المتكررة
رغم إرسال بعثات تقصّي إلى هرجيسا، لم يعترف الاتحاد الإفريقي يومًا بـ«أرض الصومال» كدولة.
رابعًا: الداخل الصومالي
- الدستور الصومالي المؤقت (2012) ينص صراحة على وحدة الأراضي الصومالية، ويقر النظام الفيدرالي كحل سياسي داخلي، لا كمدخل للتفكيك.
- تقارير منظمات المجتمع المدني الصومالية
توثّق اعتراض قبائل دولبهنتي وورسنغلي وغيرها على مشروع الانفصال، ورفضها هيمنة مليشيات SNM على القرار السياسي.
الخلاصة التوثيقية
كل ما يُروّج عن «دولة أرض الصومال» يفتقر إلى:
- اعتراف دولي
• سند قانوني
• إجماع داخلي
• أساس تاريخي قبل الاستعمار
وما يُعرض اليوم على الشاشات وخرائط التواصل الاجتماعي ليس سوى نسخة مبسّطة ومضللة من ملف معقّد، يُستخدم كأداة ضغط سياسي في صراعات النفوذ الإقليمي والدولي.
التاريخ لا يُرسم بخريطة خاطئة، والسيادة لا تُمنح بأخبار إعلامية











