العدوان الإسرائيلي المستمرّ على غزّة والأراضي الفلسطينية المحتلّة، ومعها لبنان واليمن وسوريا.. وقريباً العراق، يكشف زيف النظام الدولي القائم على القواعد، والنفاق الذي ينطوي عليه من ازدواجية المعايير واللعب بتنفيذ القوانين في حال تعلّقها بالدولة الصهيونية.
وتسلّمت السفارة البريطانية في العاصمة المغربية الرباط رسالة من سياسيين وحقوقيين مغاربة، يتهمون فيها لندن بكونها “شريكة في جرائم الحرب والإبادة الجماعية والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية في حق الشعب الفلسطيني” بعد 107 سنوات على وعد بلفور، مطالبة إياها بوقف الحرب والاعتذار.
بريطانيا والجرائم
“إننا نشهد القتل والتشويه والدمار بشكل يومي أو حتى كل ساعة، ونعلم أن حكومتنا متواطئة في ذلك..”، هذه الفقرة مقتطفة من تقرير نُشره موقع بريطاني نهاية شهر أكتوبر 2024، يوجه فيه الاتهام صراحة للحكومة البريطانية بالتواطؤ في الحرب الإسرائيلية المدمرة المستمرة على قطاع غزة والجرائم المرتكبة بحق المدنيين.
هذا التواطؤ البريطاني، وإن لم يكن جديدًا، يدعو للتساؤل عن أسباب هذا السكوت المستفز من الحكومات البريطانية المتعاقبة على جرائم إسرائيل المتواصلة بحق الفلسطينيين منذ أكثر من 80 عامًا. هذا التساؤل سنحاول الإجابة عنه من خلال هذا التقرير الذي يرصد مدى توغل اللوبي الصهيوني في مختلف مناحي الحياة في بريطانيا.
في الفقرات التالية سنقوم برصد تاريخ اللوبي الصهيوني في بريطانيا، وكيف تمكن من التوغل في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بريطانيا، وأذرع هذا اللوبي الصهيوني في بريطانيا ورموزه، وصولاً إلى طبيعة العمل الذي يقوم به اللوبي الصهيوني للتأثير على سياسات لندن داخليًا وخارجيًا.
الداعمون الرئيسيون لـ”جيش” الاحتلال الإسرائيلي وحكومته، هم الولايات المتّحدة وبريطانيا وألمانيا وهولندا وإيطاليا وفرنسا وكندا وبعض الدول الغربية الأخرى. وهم يوفّرون كلّ السلاح والغطاء السياسي في الأمم المتّحدة، بقيادة واشنطن.
من جهته، يقول الكاتب أحمد غينتورك إلى أنّ إمدادات السلاح لـ”الدولة” الصهيونية غير قانونية وتتعارض مع 3 أحكام رئيسية في القانون الدولي:
أوّلاً: على الدول كافة واجب ضمان احترام اتّفاقيّات جنيف لعام 1949، وتحديداً المادّة الرابعة الخاصّة بحماية المدنيين.
ثانياً، تتطلّب اتّفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948 من الدول الأطراف منع الإبادة الجماعية.
ثالثاً، تتناول معاهدة تجارة الأسلحة لعام 2013 صراحة الحظر المفروض على عمليات نقل الأسلحة عندما تعلم الدولة أنّ الأسلحة ستستخدم في ارتكاب الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.
قتل وحرمان
كلّ هذه الاختراقات للقانون الدولي تقوم به “دولة” الاحتلال الإسرائيلي في غزّة، وفي كلّ الأراضي الفلسطينية بتجاهل من رعاتها، لاستشهاد وجرح أكثر من 135,000 فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، في حين يستمرّ الحصار الخانق على 2 مليون شخص من خلال الحرمان من الغذاء والماء والمأوى والرعاية الطبّية ولو بحدّها الأدنى. وكلّ هذا يُؤكّد وقوع جريمة الإبادة الجماعية وجرائم حرب وضدّ الإنسانية بشكل دامغ.
يقول أستاذ القانون الدولي وحقوق الإنسان في جامعة “أوسلو” جنتيان زيبيري، إنّ القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية مُهمّة أيضاً لأنّها تنظر إلى الوضع في غزّة لأجل حماية الفلسطينيين من وحشية الحكومة الإسرائيلية بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948. وفي ما يتعلّق بالتدابير المؤقّتة التي أمرت بها المحكمة الدولية بشأن طلبات جنوب أفريقيا المتكرّرة، فلم تمتثل “إسرائيل” بالقدر الكافي لأوامر المحكمة، والنتيجة هي أنّ أكثر من 5% من سكان غزة قد استشهدوا أو جرحوا على يد “جيش” الاحتلال، الذي حوّل القطاع بأكمله إلى ركام ويجوّع الآن نحو 2 مليون فلسطيني بلا مأوى.
وفي ما يتعلّق بطلب المدّعي العامّ للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان إصدار مذكرات اعتقال ضدّ رئيس حكومة “تل أبيب” بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، يقول زيبيري إنّ “هذه الخطوة تؤكد أنّ جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبت في غزّةَ، وَيجب محاسبة المسؤولين عنها”.
شغلت بريطانيا موقعًا محوريا في المشروع الصهيوني لإقامة دولة لليهود في فلسطين، وتجلى ذلك قبل صدور “وعد بلفور” في عام 1917، واستمر إلى الوقت الراهن، وفق ما جاء في كتاب “اللوبي الصهيوني والرأي العام في بريطانيا: النفوذ والتأثير” للباحث الفلسطيني نوَّاف يوسف التميمي.
وكتب تيودور هرتزل في كتابه “الدولة اليهودية”: “منذ انضمامي إلى الحركة (الصهيونية) وجّهْتُ نظري نحو بريطانيا؛ لأنني أدركتُ أن بريطانيا مركز الثقل العالمي، وبريطانيا العظمى والحرة، التي تحكم ما وراء البحار، سوف تتفهَّم أهدافنا، والانطلاق من هناك سيخلق للأفكار الصهيونية أجنحة تحلِّق بها عاليًا وبعيدًا”.
وبالفعل يقول التميمي في كتابه: “عملت المنظمات الصهيونية، منذ وقت مبكر، على التغلغل في الأوساط السياسية البريطانية لتشكيل جماعات ضغط، مهمَّتها الرئيسية الحفاظ على زخم الدعم البريطاني، الرسمي والشعبي والإعلامي، لإسرائيل وسياساتها في كل الأزمان، وفي مختلف الظروف”.
حسب كتاب “اللوبي الصهيوني والرأي العام في بريطانيا” فإن تاريخ اليهود في بريطانيا بدأ منذ عام 1066، عندما وصلت أولى الهجرات اليهودية إلى إنجلترا بعد فتوحات النورمَانْدِيين، وصولًا إلى القرن العشرين.
إذ شهدت بريطانيا موجات هجرة يهودية متتالية من اللاجئين اليهود الفارين من الاضطهاد في روسيا، وموجات اليهود الفارين من أوروبا النازية، قبل وفي أثناء الحرب العالمية الثانية.
واهتمت الجالية اليهودية عبر كل تلك الفترات التاريخية بإنشاء مؤسساتها ومنظماتها من معابد، ومدارس، وجمعيات خيرية للأيتام، ومراكز لرعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، ومنازل لرعاية كبار السن، وجمعيات لدعم الفقراء، وهي المؤسسات التي شكَّلت اللبنات الأولى لظهور المنظمات الصهيونية ذات النشاط السياسي.