تصرفات “كتائب القسام” في تسليم الجثث: قراءة في الرمزية والاستراتيجيا
في مشهدٍ لافتٍ خلال تسليم جثامين أربعة أسرى إسرائيليين في 20 فبراير 2025، امتنع مقاتلو “كتائب القسام” عن حمل التوابيت على الأكتاف وفق البروتوكولات الدولية المعتادة، مُفضِّلين حملها بمقابض جانبية مُصمَّمة خصيصاً لتبقى مُنخفضةً عن مستوى الصدر. هذا التصرُّف لم يكن عفويّاً، بل مثَّلَ جزءاً من سرديةٍ مُحكمةٍ تَدمج بين الرمزية السياسية والحسابات الأمنية، وتكشف عن طبقاتٍ عميقةٍ من الصراع النفسي والدعائي بين حماس وإسرائيل.
السياق التاريخي لبروتوكولات تسليم الجثث: بين الأعراف الدولية والمكاسب السياسية
تَنص المادة 130 من اتفاقية جنيف الرابعة على ضرورة معاملة جثث الموتى باحترام، مع توفير ضماناتٍ لتسليمها دون إهانة. لكن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي حوّل هذه العملية إلى ساحةٍ لصراعٍ رمزي، حيثُ تحوَّلت طقوس التسليم إلى أدواتٍ لتعزيز الشرعية السياسية. ففي حرب 2006، على سبيل المثال، رفعت “حماس” جثث الجنود الإسرائيليين على الأكتاف كرمزٍ للنصر، بينما اتبعت إسرائيل أسلوباً مشابهاً في تسليم جثث مقاتلي حماس عبر جرّها بمركبات عسكرية.
اللافت في حادثة فبراير 2025 هو الخروج عن هذا النمط، حيثُ صمَّمت “القسام” توابيتَ خاصةً بمقابض جانبية تَسمح بالحمل دون رفعها، وهو ما يُشير إلى تحوُّلٍ تكتيكيٍ يهدف لتجنُّب منح إسرائيل أيّ عنصرٍ دعائي قد يُستخدَم لتأجيج الرأي العام الإسرائيلي. وفقاً لتحليلات أمنية، فإن هذا التصرف يعكس دروساً مُستفادةً من حرب 2023، حيثُ استُخدمت صور رفع الجثث على الأكتاف في الحملات الإسرائيلية لتصوير “حماس” كـ”منظمة إرهابية غير إنسانية”.
التصميم الهندسي للتوابيت: رسالة ضمنية في التفاصيل
كشفَ فحص التوابيت المُستخدمة عن ميزاتٍ تصميميةٍ غير اعتيادية:
- المقابض الجانبية: تَقع على جانبي التابوت بدلاً من الحواف العلوية، مما يُجبر الحاملين على إبقاء التابوت منخفضاً.
- اللون الأسود الغامق: مُغطّى بشعاراتٍ تضمّ صوراً لضحايا القصف الإسرائيلي في غزة.
- قفل إلكتروني: مع مفاتيحٍ وُزِّعت على فصائل فلسطينية متعددة، في إشارةٍ إلى رفض الانفراد باتخاذ القرار.
هذه التفاصيل لم تكن تقنيةً بحتة، بل حملت دلالاتٍ مزدوجة: من ناحية، تجنب إعطاء الشرعية لطقوس الجنازات الإسرائيلية التي تُحوِّل الضحايا إلى “أبطال”، ومن ناحية أخرى، تأكيد سيطرة المقاومة على أدق تفاصيل العملية. كما أن استخدام الأقفال الإلكترونية بمفاتيح غير متطابقة -حسب الرواية الإسرائيلية- يُعبّر عن رفض الانصياع للشروط الإسرائيلية في المفاوضات.
الأبعاد النفسية: تحطيم هيبة الجيش الإسرائيلي
من الناحية النفسية، يُعتبر خفض مستوى التوابيت استراتيجيةً لخلق تأثيرٍ بصريٍ مُضادٍ لصور الجنود الإسرائيليين وهم يحملون نعوشَ زملائهم بوقار. في حرب 2014، استخدمت إسرائيل صورَ الجنود وهم يُرفعون على الأكتاف لتعزيز الروح المعنوية، بينما سعت “القسام” هنا لتفكيك هذه الصورة الذهنية.
وفقاً لدراسات في الإعلام الحربي، فإن خفض مستوى التابوت يُقلل من قيمته الرمزية كـ”جثمان البطل”، ويحوّله إلى مجرّد “جسم” يجب التخلص منه. هذا التكتيك يعكس فهماً عميقاً لآليات الحرب النفسية، حيثُ تُصوَّر إسرائيل كطرفٍ غير قادرٍ حتى على حماية جثث ضحاياه.
ردود الفعل الإسرائيلية: بين الغضب والاستغلال السياسي
تصاعدت الانتقادات الإسرائيلية تجاه طريقة التسليم، حيث وصفها رئيس الوزراء نتنياهو بأنها “استهانةٌ بالكرامة الإنسانية”. لكنّ تحليلاتٍ داخليةً كشفت عن انقسامٍ في التعامل مع الحدث:
- المؤسسة العسكرية: استخدمت الحادثة لدعم رواية “همجية حماس”، مع الإعلان عن تسريع خطط اجتياح رفح.
- المعارضة السياسية: اتهمت نتنياهو باستغلال الحدث لتحويل الانتباه عن فشله في استعادة الجثث سريعاً.
اللافت أن إسرائيل حاولت تحويل التوابيت نفسها إلى دليلٍ إعلامي، حيثُ أظهرت لقطاتٌ تلفزيونية مواد دعائية لـ”حماس” داخل أحد الصناديق، في محاولةٍ لتأكيد سردية “الإرهاب”. لكنّ خبراء إعلاميين أشاروا إلى أن هذه المواد كانت مطبوعةً بلغاتٍ أجنبيةٍ موجهةٍ للجمهور الدولي، مما يؤكد أن “القسام” خططت لاستخدام الحدث في معركتها الدعائية العالمية.
البعد الدعائي: صناعة الصورة في عصر السوشيال ميديا
اختارت “القسام” موقع تسليم الجثث بعناية في خان يونس، منطقةٍ شهدت معاركَ ضاريةً خلال الحرب، مع نشر لافتةٍ ضخمةٍ تظهر نتنياهو على شكل مصاص دماء. هذا المشهد المُصمَّم للميديا يهدف إلى:
- تعزيز الشرعية الداخلية: عبر إظهار السيطرة الميدانية على مناطقٍ كانت إسرائيل تدعي “تحريرها”.
- استهداف الرأي العام العالمي: من خلال تذكير العالم بضحايا القصف الإسرائيلي، عبر وضع صورهم على التوابيت.
كما أن اختيار “مقبرة الشهداء” كموقعٍ للتسليم لم يكن عشوائياً، بل لربط الحدث بذاكرة الشهداء الفلسطينيين، مما يُحوِّل العملية من مجرد تبادلٍ تقنيٍ إلى جزءٍ من السردية التاريخية للقضية.
التداعيات على المفاوضات المستقبلية: إعادة تعريف قواعد الاشتباك
أثّرت طريقة التسليم هذه على ديناميكيات المفاوضات المستقبلية بعدة طرق:
- رفع تكلفة الرفض الإسرائيلي: عبر إظهار أن حماس قادرة على “إذلال” إسرائيل رمزياً إذا لم تلتزم بالاتفاقات.
- خلق سابقةٍ لشروط جديدة: كطلب ضماناتٍ بعدم استغلال الصور إعلامياً مقابل تسليم الجثث.
من الناحية القانونية، أثارت الحادثة جدلاً حول مدى توافقها مع القانون الدولي الإنساني. بينما اعتبرتها الأمم المتحدة “مُهينة”، أكد خبراء قانونيون أن حماس التزمت بالحد الأدنى من المتطلبات عبر تسليم الجثث للصليب الأحمر، مع أن الشكل الرمزي يبقى في منطقةٍ رماديةٍ قانونياً.
الخاتمة: الحرب كمسرحٍ للرمزيات
لم يكن امتناع “كتائب القسام” عن رفع التوابيت مجرد تفصيلٍ ثانوي، بل شكّلَ حلقةً في حربٍ نفسيةٍ معقدةٍ تُدار بالصور والرموز بقدر ما تُدار بالصواريخ. هذه الحادثة تذكيرٌ بأن الصراعات الحديثة لم تعد تُحسم في ساحات القتال فحسب، بل أيضاً في مختبرات الإعلام وعلم النفس الجماعي. بينما تسعى إسرائيل لتحويل كل جثمانٍ إلى بطل، تعمل حماس على تفكيك هذه الصورة عبر تحويل الجثة إلى مجرد “جسم” في معادلة القوة. السؤال الذي يبقى: هل ستنجح هذه الاستراتيجيات في تغيير ميزان القوى الرمزي، أم أنها ستُغذي حلقةً جديدةً من العنف المتبادل؟