“سافر يا بني البلد مفيهاش غير حبوب الغله”، كانت تلك نصيحة تلقاها اليوتيوبر الشهير وصانع المحتوي أحمد أبوزيد فور افراج السلطات المصرية عنه علي ذمة قضية اتجار في العملة، ويخشي البعض عليه من الانتحار نتيجة تعرضه لظروف صعبة، كما حدث مع شاب من محافظة الدقهلية في بث مباشر، عندما تخلص من حياته بتناول حبوب الغلال السامة.
وخلال بث مباشر عبر حسابه في موقع التواصل “فيسوك” أقدم شاب عشريني على إنهاء حياته عن طريق تناول “حبة الغلة” السامة.فقد تحدث شاب من محافظة الدقهلية المصرية في بث مباشر عن التخلص من حياته بتناول حبوب الغلال السامة، وقال: “أنا أخدت حباية الغلة وذنبي في رقبة كل اللي ظلمني ومش مسامح كل من ظلمني”.
وأثار اعتقال أحد أشهر صناع المحتوى التعليمي في مصر والعالم العربي، أحمد أبو زيد، الكثير من التساؤلات، خاصة وأنه يعتبر من أبرز المبدعين في مجال التعليم الرقمي في المنطقة، ومحتواه بعيد عن الشؤون السياسية أو أي مواد يمكن تصنيفها على أنها “مخالفة للقيم والأخلاق” المحافظة.
بعد قرار المحكمة المصرية إخلاء سبيل اليوتيوبر، أحمد أبو زيد، كشف محاميه حقيقة رغبة موكله مغادرة البلاد، وقال محمد عمر، محامي أبو زيد الذي يحاكم في قضية الاتجار بالنقد الأجنبي، خلال مداخلة هاتفية مع برنامج “الحكاية” على شاشة “MBC مصر”، إن اليوتيوبر المعروف لم يبلغه على الإطلاق بأنه سيغادر البلاد.
وشهدت مصر خلال العقد الماضي تصاعدًا غير مسبوق في معدلات الانتحار، حيث تحولت الظاهرة من حوادث فردية نادرة إلى مؤشر مجتمعي خطير يعكس عمق الأزمات البنيوية.
وتشير بيانات منظمة الصحة العالمية إلى تسجيل 3,799 حالة انتحار عام 2018، وهو أعلى معدل عربي، متفوقًا على دول تعاني من حروب أهلية. بين أبريل 2023 ومارس 2024، رصدت تقارير مستقلة 322 حالة، مع توقع أن الرقم الفعلي يتجاوز الآلاف سنويًا.
يعكس هذا الارتفاع تفاعلًا معقدًا بين الانهيار الاقتصادي والتضييق السياسي والتفكك الاجتماعي، مما يجعل مصر نموذجًا لانهيار العقد الاجتماعي تحت وطأة الأزمات المتلاحقة.
السياق التاريخي: من الظاهرة النادرة إلى المؤشر الوبائي
التحولات الديموغرافية والاقتصادية
شهدت مصر تحولات جذرية في بنيتها الاجتماعية مع سياسات التحرير الاقتصادي منذ سبعينيات القرن الماضي. أدى انهيار نظام الرعاية الاجتماعية وتراجع دور الدولة إلى تفاقم الفجوات الطبقية، حيث يعيش 60% من السكان تحت خط الفقر وفق تقديرات البنك الدولي. ارتبطت هذه التحولات بزيادة معدلات الانتحار من 1,160 حالة عام 2005 إلى 4,200 حالة عام 2008.
التغيرات السياسية وانعكاساتها النفسية
أدت ثورة 2011 ثم ثورة 30 يونيو 2013 إلى صدمات متتالية في الوعي الجمعي. تشير دراسات المركز القومي للبحوث الاجتماعية إلى أن 24.7% من المصريين يعانون اضطرابات نفسية، مع ارتفاع نسبة القلق والاكتئاب بين الشباب إلى 38%.
أصبحت مفردات مثل “الغياب” و”اللاجدوى” جزءًا من الخطاب اليومي، خاصة بين الخريجين العاطلين الذين يشكلون 63.78% من الحالات.
التشريح الاقتصادي للكارثة: حين يصبح الموت خيارًا
البطالة كقاتل صامت
تشكل الفئة العمرية 21-30 عامًا 35.7% من حالات الانتحار، حيث تبلغ بطالة الخريجين الجامعيين 42%. تحولت أحلام هؤلاء الشباب في الحصول على وظيفة لائقة إلى كابوس يومي، مع متوسط انتظار 7 سنوات للحصول على أول عمل دائم وفق دراسات البنك المركزي.
التضخم الجموح وانهيار القوة الشرائية
فقد الجنيه المصري 300% من قيمته منذ 2016، بينما ارتفعت أسعار السلع الأساسية بنسبة 450%. تشير حالات مثل انتحار عمال مصنع غزل المحلة عام 2023 بسبب تأخر الرواتب إلى كيف تحولت الحياة إلى معادلة مستحيلة: “الراتب الشهري لا يكفي أسبوعًا”.
الهجرة غير الشرعية: الانتحار البطيء
سجلت مصر 12,000 محاولة هجرة غير شرعية عام 2024، مع تحول البحر الأبيض المتوسط إلى مقبرة جماعية. يعتبر الخبراء هذه المحاولات شكلاً من أشكال الانتحار غير المباشر، حيث يفضل 73% من الشباب “المخاطرة بالموت على العيش في الذل”.
الخطاب الرسمي: بين التضليل وإنكار الواقع
تعمدت الحكومة المصرية تزييف الإحصاءات، حيث أعلنت 69 حالة انتحار فقط عام 2017، بينما سجلت المنظمات المستقلة 3,799 حالة. يشكل هذا الإنكار استراتيجية لإخفاء فشل السياسات، وتحويل الضحايا إلى مجرد “حالات شاذة”.
التشابكات الاجتماعية: حين يتحول المجتمع إلى غابة
تفكك الأسرة وتآكل الروابط
ارتفعت معدلات الطلاق إلى 40%، مع تسجيل حالة انفصال كل 3 دقائق. تشكل الخلافات الأسرية 28% من أسباب الانتحار، حيث فقدت الأسرة دورها كشبكة أمان اجتماعي.
العنوسة كقنبلة موقوتة
يعاني 15 مليون شاب وفتاة من العنوسة بسبب الأعباء الاقتصادية، مع تحول الزواج إلى رفاهية غير متاحة. سجلت 38 حالة انتحار بين الفتيات بسبب “وصمة العانس” خلال 2023.
التعليم: مصنع اليأس
تحتل مصر المرتبة 139 عالميًا في جودة التعليم. تحولت المدارس إلى ساحات لإنتاج الإحباط، حيث انتحر 8 طلاب ثانويين عام 2021 بسبب نظام التقييم الفاشل.
سيكولوجيا اليأس: تشريح اللحظة الأخيرة
الانتقال من الأفكار إلى الفعل
تشير دراسات الصحة النفسية إلى أن 78% من المنتحرين مروا بفترة اكتئاب لمدة عامين قبل تنفيذ الفعل. تتحول المعاناة اليومية إلى “نفق مظلم” لا نهاية له، حيث يفقد الأمل قيمته كآلية بقاء.
وسائل التواصل الاجتماعي: مسرح المأساة
سجلت 45% من حالات الانتحار عام 2024 عبر بث مباشر، حيث تحولت المنصات الرقمية إلى مساحة أخيرة للاعتراف بالمعاناة. حالة الشاب في الدقهلية الذي انتحر بالسم أمام الكاميرا تعكس بحثًا يائسًا عن “شهود على الظلم”.
الرسائل الأخيرة: صرخات في فراغ
تحليل 500 رسالة انتحار كشف أن 89% منها تضمنت اتهامات مباشرة للدولة بالمشاركة في القتل. عبارات مثل “الظلم دمرني” و”لا أمل في التغيير” تسلط الضوء على الإحجام بالظلم المؤسسي.
الحلول المطروحة: بين الوهم وإمكانية التغيير
الإصلاح الاقتصادي العاجل
يتطلب الأمر خطة طوارئ لتوفير 5 ملايين فرصة عمل خلال 3 سنوات، مع رفع الحد الأدنى للأجور إلى 10,000 جنيه شهريًا لمواكبة التضخم. تشير تجارب دول مثل البرازيل إلى إمكانية خفض الانتحار 40% عبر تحسين الظروف المعيشية.
إعادة بناء الثقة السياسية
يجب إطلاق حوار وطني شامل مع رفع القيود عن الحريات العامة، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين. الديمقراطية ليست رفاهية، بل ضرورة لاستعادة الأمل في إمكانية التغيير السلمي.
بناء نظام دعم نفسي مجتمعي
تقتضي المواجهة الفعالة إنشاء 500 مركز دعم نفسي مجاني بحلول 2026، مع تدريب 10,000 أخصائي نفسي. تجربة المغرب في خفض الانتحار 30% عبر الخطوط الساخنة تقدم نموذجًا قابلًا للتطبيق.
مراجعة الخطاب الديني
يجب تطوير خطاب ديني يتجاوز التكفير إلى فهم الأسباب الاجتماعية للانتحار. مبادرات مثل حملة الأزهر “لا تيأس” تحتاج إلى دعم مؤسسي بدلًا من الاكتفاء بالشعارات.
الخاتمة: الانتحار كرسالة سياسية
لم تعد حالات الانتحار في مصر مجرد مآسٍ فردية، بل تحولت إلى مؤشر مركب على انهيار النظام الاجتماعي بأكمله. كل جسد يسقط من نافذة أو يشنق في زنزانة أو يغرق في النيل هو إدانة صارخة لفشل النموذج التنموي القائم.
يتطلب الخروج من هذه الكارثة إعادة نظر جذرية في السياسات الاقتصادية، وفتح الأبواب الموصدة للتغيير السياسي، واستعادة الإنسان المصري كقيمة عليا في معادلة الحكم. فقط عبر هذه الإصلاحات الجذرية يمكن تحويل اليأس إلى أمل، والحياة من جديد إلى خيار يستحق العناء.
يذكر أن تناول حبة تخزين الغلال بوصفها وسيلة للانتحار أصبحت ظاهرة تنتشر في الريف المصري.
و”حبة الغلة” هي المبيد الحشري الأوسع استخداما في المناطق الريفية في مصر لحفظ الحبوب وحماية المحاصيل من التسوس والقوارض. لكنها في الوقت نفسه أصبحت تمثل أداة الانتحار الأرخص والأكثر انتشارا وسط صفوف الشباب والشابات في الريف المصري.
فيما شاعت في السنوات القليلة الماضية الحوادث التي تناولتها وسائل الإعلام المصرية عن استخدام “حبة الغلة” التي تقتل متناوليها في صمت، وعلى مدى ساعات من دون علم ذويهم.
و”حبوب الغلة أو أقراص الغلة” هي أقراص تحتوي على مادة فوسفيد الألمنيوم السامة، ولا يوجد لها مضاد للسم على مستوى العالم.
وفوسفيد الألمنيوم هو عبارة عن سم قاتل يُستخدم بكثافة كمبيد للحشرات والقوارض، وانتشر بشكل سريع كمادة فعالة تُستخدم في رش المحاصيل الزراعية بسبب سرعة انطلاق غاز الفوسفين.