محمود اكوت
في خطوة متوقعة لكنها تحمل دلالات بالغة الخطورة، أقدم الرئيس سلفاكير على فرض الإقامة الجبرية على نائبه الأول رياك مشار، زعيم الحركة الشعبية المعارضة، في تصعيد سياسي لا يمكن قراءته إلا على أنه محاولة منظمة لتصفية المعارضة وتقويض اتفاقية السلام المنشطة. هذه الخطوة، وإن كانت تُسوَّق داخليًا كإجراء أمني لحفظ الاستقرار، إلا أنها في جوهرها تعكس حالة الرعب السياسي الذي تعيشه الحركة الشعبية لتحرير السودان (الجناح الحاكم) من أي وجود حقيقي للمعارضة داخل منظومة الحكم.
هذه ليست مجرد أزمة عابرة، بل هي ذروة التناقضات التي حكمت العلاقة بين سلفاكير ورياك مشار منذ توقيع اتفاقية السلام، والتي أصبحت الآن مهددة بالانهيار التام. وبصفتي ناشطًا سياسيًا مؤمنًا بالديمقراطية، لا يمكنني إلا أن أرى في هذه الخطوة دليلًا على فشل مشروع بناء الدولة، وانحراف القيادة الحاكمة عن أي التزام حقيقي بالسلام والديمقراطية.
تفكيك المشهد: كيف تم التحضير لإقصاء مشار؟
لفهم قرار الإقامة الجبرية لا بد من تحليل سياق الأحداث التي سبقت هذه الخطوة، والتي تعكس وجود خطة مدروسة لإقصاء رياك مشار عن المشهد السياسي بطريقة ممنهجة:
- تقويض صلاحيات مشار داخل الحكومة
منذ توقيع اتفاقية السلام، حرص سلفاكير على إبقاء مشار في موقع ضعيف داخل الحكومة، عبر تقييد وصوله إلى الموارد، والتلاعب بتوزيع المناصب الحكومية، وتعطيل قراراته.
تم استبعاد قيادات بارزة من المعارضة من مواقع السلطة الفاعلة، في انتهاك واضح لبنود اتفاق تقاسم السلطة. - عرقلة ملف توحيد القوات
أحد البنود الأساسية في الاتفاقية كان دمج قوات المعارضة في الجيش الوطني، لكن الحكومة عمدت إلى تأخير هذه العملية عمدًا، في محاولة لتفكيك قوة مشار العسكرية وإضعاف نفوذه الميداني.
بدلاً من تنفيذ عمليات الدمج كما هو متفق عليه، لجأت الحكومة إلى استهداف قادة عسكريين موالين لمشار، كما حدث مع اعتقال الفريق قبريال دوب لام، أحد أبرز جنرالات المعارضة. - تحييد دور المجتمع الدولي والإقليم
سلفاكير وحلفاؤه فهموا جيدًا أن الضغوط الدولية على حكومته ضعفت بعد سنوات من المماطلة.
استغل التوترات الإقليمية، خاصة في السودان والكونغو، لجعل ملف جنوب السودان أولوية ثانوية في أجندة الوسطاء الدوليين. - إعداد الرأي العام لإقصاء مشار
قبل وضعه قيد الإقامة الجبرية، كانت هناك حملة إعلامية منظمة داخل جوبا لتشويه صورة مشار، وتصويره على أنه عقبة أمام السلام.
تم تضخيم الخلافات الداخلية داخل الحركة الشعبية المعارضة لإظهار مشار كشخصية غير قادرة على قيادة المعارضة.
الإقامة الجبرية: لماذا الآن؟
إذن، لماذا قرر سلفاكير التحرك الآن؟ هناك عدة عوامل تفسر التوقيت الدقيق لهذا القرار: - تحضير المسرح للانتخابات القادمة
الحكومة تتجه نحو إجراء انتخابات عامة في 2026 أو 2027، لكنها تدرك أن السماح لمشار بالمشاركة سيشكل تهديدًا مباشرًا لحكم سلفاكير.
وضعه تحت الإقامة الجبرية هو خطوة استباقية لضمان ألا يتمكن من تنظيم حملة انتخابية أو حتى التفاوض من موقع قوة. - الخوف من تحركات داخلية ضد سلفاكير
هناك توتر داخل الحركة الشعبية الحاكمة نفسها، حيث بدأ بعض القيادات في التشكيك بقدرة سلفاكير على قيادة البلاد.
ربما تخشى الحكومة من أن مشار قد يكون على اتصال بعناصر معارضة لسلفاكير داخل حزبه الحاكم نفسها. - إرسال رسالة إلى المجتمع الدولي
الحكومة تدرك أن المجتمع الدولي لن يتخذ موقفًا حازمًا بشأن جنوب السودان في ظل انشغاله بأزمات دولية أخرى (مثل الحرب في أوكرانيا والتوترات في القرن الإفريقي).
بالتالي، فإن فرض الإقامة الجبرية هو تحدٍ مقصود للإرادة الدولية، لاختبار مدى جدية رد فعل المجتمع الدولي.
هل الحركة الشعبية الحاكمة جديرة بالثقة؟
قرار فرض الإقامة الجبرية على رياك مشار يكشف حقيقة لطالما حاول البعض إنكارها: أن الحركة الشعبية بقيادة سلفاكير لم تعد مؤهلة لقيادة مشروع بناء الدولة.
كيف يمكن أن تُؤتمن حكومة على قيادة شعبها، وهي:
توقع اتفاقية سلام ثم تعمل على تقويضها من الداخل؟
تدعو إلى المصالحة لكنها في الوقت نفسه تستهدف قادة المعارضة؟
تتحدث عن الانتخابات لكنها تُقصي خصومها قبل أن تبدأ المنافسة؟
هذه التناقضات هي سبب الأزمة العميقة التي يعيشها جنوب السودان اليوم، وهي تعني شيئًا واحدًا فقط: أن الحكومة الحالية لا تؤمن أصلًا بالديمقراطية، بل تتعامل مع السلطة كملكية خاصة يجب الحفاظ عليها بأي ثمن.
ما الذي يجب أن يحدث الآن؟
في مواجهة هذا التطور الخطير، لا يمكن أن يظل المجتمع الدولي أو القوى الوطنية الديمقراطية في جنوب السودان صامتة. هناك خطوات ضرورية يجب اتخاذها فورًا لمنع هذا الانحراف الخطير عن مسار السلام: - الإفراج الفوري عن رياك مشار ورفع الإقامة الجبرية عنه
استمرار احتجازه في منزله ليس فقط انتهاكًا لحقوقه، بل هو خرق مباشر لاتفاقية السلام المنشطة.
يجب أن يكون المجتمع الدولي واضحًا في الضغط على الحكومة لإلغاء هذا القرار فورًا. - إعادة إحياء دور الوسطاء الدوليين
اتفاقية السلام بحاجة إلى إعادة ضبط، لأن الحكومة الحالية أثبتت أنها غير جادة في تنفيذها.
يجب أن تعود الإيقاد، الاتحاد الإفريقي، والأمم المتحدة إلى لعب دور فاعل في ضمان التزام الأطراف بالاتفاق. - فتح المجال السياسي وإطلاق الحريات
لا معنى لأي حديث عن انتخابات إذا كانت الحكومة تقوم باعتقال المعارضين وتقيد حركتهم.
المجتمع المدني والقوى الديمقراطية داخل البلاد يجب أن تضغط بقوة لرفض سياسات الإقصاء التي تنتهجها الحكومة.
الخاتمة: جنوب السودان إلى أين؟
الإقامة الجبرية لرياك مشار ليست مجرد إجراء أمني، بل هي مؤشر على طبيعة الدولة التي يريد سلفا كير بناءها: دولة لا مكان فيها للمعارضة، ولا مجال فيها للديمقراطية.
إذا لم يكن هناك تحرك حقيقي لمواجهة هذا الانحراف الخطير، فإن جنوب السودان يسير نحو نموذج حكم فردي سلطوي، حيث تُصنع القرارات في الغرف المغلقة، ويُسحق كل صوت معارض قبل أن يسمعه أحد.
السؤال الآن هو: هل يقبل شعب جنوب السودان بهذا المصير، أم أن هناك من سيقف في وجه هذا العبث؟