عندما تشتعل التوترات بين باكستان والهند، يعود العالم ليطرح السؤال الأصعب: كيف امتلكت باكستان سلاحها النووي الذي أصبح اليوم درعها الحصين؟
في قلب هذا التحول التاريخي، يقف رجل واحد صنع الفرق، ليس ببندقية ولا بدبابة، بل بالعلم والإرادة والإيمان بالوطن. إنه عبد القدير خان، العالم الذي كتب اسمه في سجلات القوة والردع، وأهدى باكستان القدرة على فرض التوازن مع جارتها اللدودة.
قصة عبد القدير خان ليست مجرد سيرة ذاتية لعالِم، بل ملحمة وطنية تُروى كلما احتدمت الأزمات، لتذكر الجميع أن الإخلاص للوطن، حين يتسلح بالعلم والإيمان، قادر على حماية الأجيال القادمة.
في ظل التوترات الإقليمية المتصاعدة بين الهند وباكستان، يعود إلى الواجهة الحديث عن القدرات النووية التي تمتلكها الدولتان. يتساءل البعض: كيف استطاعت باكستان، الدولة ذات الموارد المحدودة، أن تدخل نادي الدول النووية؟
الإجابة تكمن في شخصية بارزة أثرت على مسار التاريخ العسكري والسياسي في جنوب آسيا، إنه الدكتور عبد القدير خان، الملقب بـ”أبو القنبلة النووية الباكستانية”.
وُلد عبد القدير خان عام 1936 في مدينة بوبال الهندية، وانتقل بعد تقسيم شبه القارة الهندية إلى باكستان. برز منذ صغره بنبوغه الأكاديمي، وواصل دراسته الجامعية في أوروبا، حيث تخصص في هندسة المعادن والفيزياء النووية.
حصل على الدكتوراه من جامعة لوفن الهولندية، وهناك عمل في شركات متخصصة في التكنولوجيا النووية، ما أتاح له فرصة نادرة للاطلاع على أسرار الصناعة النووية الغربية.
عام 1974، أجرت الهند أول تجربة نووية تحت اسم “ابتسامة بوذا”، مما شكل صدمة استراتيجية لباكستان، التي وجدت نفسها عسكرياً في موقف ضعيف أمام عدو تقليدي يمتلك السلاح النووي.
حينها، شعر عبد القدير خان بمسؤولية وطنية كبرى، وكتب إلى رئيس الوزراء الباكستاني حينها، ذو الفقار علي بوتو، مقترحاً مشروعاً لبناء برنامج نووي باكستاني. رد بوتو بجملته الشهيرة: “سنأكل العشب لكننا سنمتلك القنبلة النووية”، وتم تكليف خان بقيادة المشروع الوطني النووي.
أسّس خان في سبعينيات القرن الماضي مركزاً للأبحاث النووية يعرف اليوم باسم Kahuta Research Laboratories. عمل خان بسرية تامة على تطوير أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم، وتمكن وفريقه من تحقيق إنجاز تقني ضخم في وقت قياسي.
ورغم العقوبات الدولية والضغوط الغربية، واصل المشروع تقدمه بسرية بالغة، حتى أصبحت باكستان فعلياً دولة نووية بحلول منتصف التسعينيات، لكن الإعلان الرسمي جاء لاحقاً.
في مايو 1998، وبعد أيام قليلة من قيام الهند بإجراء تجارب نووية جديدة، ردت باكستان بتفجيرات نووية في منطقة شاجي في إقليم بلوشستان، معلنة رسمياً دخولها نادي القوى النووية. وبذلك تحققت رؤية عبد القدير خان، وأصبح في نظر الكثيرين بطلاً قومياً.
لاحقاً، تعرض خان لانتقادات وضغوط دولية، بعد اتهامات بنقل تقنيات نووية إلى دول أخرى مثل إيران وكوريا الشمالية وليبيا.
في 2004، اعترف خان بمسؤوليته عن نقل التكنولوجيا في خطاب متلفز، وأُجبر على الإقامة الجبرية لسنوات، قبل أن يُرفع عنه الحظر تدريجياً.
ومع ذلك، لم تتغير نظرة الباكستانيين له باعتباره بطلاً قومياً سخر علمه لخدمة وطنه.
رغم الجدل، يبقى عبد القدير خان رمزاً وطنياً في باكستان، ونموذجاً للمواطن المخلص الذي وظف علمه لخدمة بلاده. توفي في 10 أكتوبر 2021، بعد مسيرة حافلة تركت أثراً لا يُمحى في التاريخ الباكستاني.
قصة عبد القدير خان تُجسد كيف يمكن للفرد أن يكون درعاً لوطنه عندما يجمع بين العلم، والإخلاص، والإيمان. في خضم التوترات الإقليمية، تبقى مثل هذه القصص مصدراً للإلهام، وتذكيراً بأن القوة الحقيقية تبدأ من الإيمان بالوطن والقدرة على خدمته، مهما كانت التحديات.










