هوشنك أوسي
بعد سقوط نظام الأسد في سوريا واستلام “جبهة النُّصرة” وزعيمها أحمد الشّرع مقاليد الحكم وإعلانهِ “حلَّ جبهته”، ثمّ إعلانهِ نفسهُ رئيسًا مؤقّتًا، وتنصيبه أعضاء جماعته في قيادة الجيش والأمن والحكومة (المؤقّتة)، ثمّ إقامته مؤتمرًا صوريًّا لـ”الحوار الوطني” من لون واحد، وإصداره إعلانًا دستوريًّا مؤقَّتًا يمنح الشَّرع صلاحيّات زعيم دكتاتوري… وكأنَّه أتى بانقلاب عسكري! بعد تحقق كلّ ذلك، نشوةُ النَّصر الدَّينيّ والطَّائفي للإسلام السّياسي السُّنّي المتطرّف الحاكم في سوريا هذه الأيّام، أكاد أن أقول: إنّها تجاوزت في شدّتها نشوة المسلمين بانتصارهم في غزوة بدر على “كفّار قريش”.
وبالتالي، صرنا نرى العديد من النّشطاء الموالين للنّظام الحالي يصفون سوريا عمومًا ودمشق على وجه الخصوص بأنّها “أمويّة، كانت وستبقى أمويّة”! وفي غضون حالة الهستيريا الطّائفيّة المستمرّة تلك، لا يكلّ ولا يملُّ هؤلاء من كيل المدائح للحقبة الأمويّة التي عاشتها البلاد من 661 م ولغاية 750 م! وبالرّغم من عمر سوريا الذي يمتدّ لأكثر من 10 آلاف سنة، لا يتذكّر هؤلاء منها سوى 90 سنة، هي مدَّة الحكم الأموي!
طبعًا، هؤلاء النّشطاء لا ينطقون عن هواهم الطّائفي وحسب، بل لهم من يناصرهم في قلب السُّلطة السُّوريّة الإسلاميّة الحاليّة ويمدُّهم بالتّموين الإعلامي والسِّياسي، ويوفِّر لهم الملاذ الشّعبي والغطاء القانوني (الشّرعي)، وبالتالي؛ “الأمويون الجدد”، إن جاز وصفهم بذلك، صحيح أنَّهم يقولون: “إن عقارب السّاعة لن تعود إلى الخلف”، في إشارة منهم إلى استحالة عودة حكم آل الأسد (العلويين)، وكلامهم صحيح، لكنهم لا يجدون أيّ حرج أو حياء وخجل من إعادة عقارب السَّاعة إلى 1364 سنة للوراء، حين أعلن معاوية بن أبي سفيان نفسه خليفةً على المسلمين واتخذ من دمشق عاصمة له! هؤلاء النَّشطاء بميولهم اللاوطنيّة وقضّ وقضيض أمراضهم وأحقادهم الطّائفيّة هم حاصل ضرب القليل من المصالح الفرديّة بمصالح جماعة سياسيّة دينيّة تحكم سوريا وتتبنّى التقيّة المؤقّتة إلى جانب تبنّيها عقيدة إيديولوجيّة جماعاتيّة راسخة، لحين التمكُّن تمامًا من حكم سوريا، كما فعل نظام حافظ الأسد.
هذه المجموعات النّشطة على مواقع التّواصل الاجتماعي، تروّج كثيرًا للاستحقاق الأموي (العربي – السُّنّي) وأحقيّة استحواذ ما يمكن تسميّتهم بـ”المكوّن الأموي” على حكم سوريا. بعضهم ممَّن يعيشون في البلدان الأوروبيّة، وغير مستعدّين لترك دار “الكفر” والعودة إلى دار الإيمان، لكنهم يضخّون خطاب كراهيّة رهيبة ضدّ باقي مكوّنات الشّعب السُّوري من العلويين والدروز والكرد والمسيحيين، على أنّهم ضد حكم الإسلام وأنّهم فلول وأتباع أمريكا وإسرائيل وإيران!
وخطاب الكراهية ذاك، بما فيه من نزوع أقلوّي يستحضر الخزين الدّموي الطّائفي في التّاريخ الإسلامي ويسقطه على واقع سوريا الحالي، على أنَّ انتصار الإسلام السِّياسي السُّنّي في سوريا هو انتصارٌ وثأر لدم الخليفة عثمان بن عفّان، وثأرٌ لسقوط الخلافة الأمويّة وثمّ العثمانيّة، ويتناسون أنّ من أسقط الخلافة الأمويّة هم مسلمون سنّة من أبناء عمومة الأمويين، وأعني بهم العبَّاسيين، وإنّ من أسقط الخلافة العبّاسيّة هم أجداد العثمانيين الجدد الذين يحكمون تركيا حاليًّا!
بالتالي، لا يتوانى أبناء “المكوِّن الأموي” عن اعتبار سيطرتهم على دمشق ثأرًا وانتقامًا من شيعة العراق لإسقاطهم نظام صدّام حسين (السُّنّي)، ولو أمكنهم اعتقال بشّار الأسد، لأعدموه بنفس الطّريقة التي أعدمت بها الفصائل الشيعيّة الموالية لطهران، الرّئيس العراقي الأسبق.
وبنفس المستوى؛ يعتبر الكثير من غلاة الشّيعة والعلويين في سوريا والعراق وإيران سقوط نظام الأسد، ليس فقط انتكاسة كبرى لهم وحسب، بل تجدد لمأساة كربلاء وحادثة مقتل الحسين بن علي!
وبالعودة إلى فحص وجاهة ورجاحة أسانيد وحجج “الأمويين الجدد” في ضرورة وحتميّة أن تكون سوريا أمويّة، نجدُ أنَّ الحكم الأموي استمرَّ 90 سنة فقط.
وقياسًا على هذه الحجّة المتهافتة، يحقّ لآخرين تنسيب سوريا إلى العبّاسيين، لأنّها كانت تحت حكم الدولة العبَّاسيّة لأكثر من خمسة قرون (750-1274)! كذلك يحقُّ لأبناء الطائفة الإسماعيليّة القول: سوريا فاطميّة، لأنَّ الفاطميين حكموها لأكثر من قرن (969-1076). ويحقُّ للكرد القول: دمشق أيوبيّة لأنّ الأيوبيين حكموها لأكثر من ثمانين سنة (1174-1256).
ويحقُّ للشركس والشيشان أيضًا الاعتراض والقول: دمشق شركسيّة، لأنَّ المماليك حكموها لأكثر من قرنين ونصف (1260-1456).
وسيقول الأتراك: دمشق تركيّة، لأنَّ العثمانيين حكموها لأربعة قرون (1456-1918)! وربّما يقول الرُّوم الأرثوذكس والكاثوليك: بل دمشق رومانيّة، لأنّ الرُّومان حكموا سوريا لستة قرون. وأصلاً الكثير من السِّريان والآثوريين يقولون: نحن الأصل، وسوريا لنا سريانيّة، لأنَّ الأشوريين حكموها نحو ستة قرون. وهكذا دواليك مرورًا بالميديين (أجداد الكرد) والهوريين-الميتانيين والفرس والمصريين الفراعنة، والفينيقيين والكنعانيين…!
وربّما يخرج علينا البعض من أبناء المكوّن البعثي أو الطّائفة البعثيّة ويشتط بهم خيالهم في حالة تماهي مع خيالات “المكوّن الأموي” ويقول: سوريا بعثيّة، وأسديّة، لأن البعث حكمها لما يزيد عن ستة عقود، وحكمها آل الأسد لنحو 54 سنة!
وبالتالي، الجماعات العقائديّة القوميّة تختصر المكوّنات والشّعوب الأخرى داخل نفسها، لذا اعتبر حزب البعث السُّوري كلّ من يعيش على الأرض السُّوريّة عربيًّا!
واعتبرت الأحزاب القوميّة التّركيّة كلّ من يعيش في تركيا تركيًّا، وفي حين اعتبر النّظام الإيراني الكرد فرعًا من الفرس! كذلك تختزل الأحزاب العقائديّة الدّينيّة الإسلاميّة الإسلام الصّحيح في نفسها وأتباعها، وبقية الفرق الإسلاميّة الأخرى؛ ضالّة مُضلّة، وفي النَّار.
من دون أنّ ننسى أنَّ الجماعات والأحزاب الشّيوعيّة تختزل الطّبقات في طبقة العمّال البروليتاريا، وتُنهي التّاريخ بحتميّة انتصار دولة الطبقة العاملة على دولة الرَّأسماليّة والامبرياليّة. هكذا نماذج من الأحزاب والجماعات العقائديّة، مهما بلغ معسول مزاعمها وادعاءاتها وتطبُّعها، يستحيل أن تكون ديمقراطيّة ومنتجة وداعمة لشيءٍ اسمه الدولة الوطنيّة المحايدة التي تقف على مسافة واحدة من كلّ مكوّنات مجتمعها!
حاصل القول: مع وجود “الأمويين الجدد” في رأس سدّة الحكم السّوري، ووجود الكربلائيين الشّيعة (الولائيين) على رأس الحكم في بغداد، بمعيّة هؤلاء الطائفيين في البلدين الجارين، تبقى سوريا والعراق دائرتين في الفلك الدموي الطائفي الذي أنتجه الصّراع على السّلطة في قريش بين بني أموية وبني هاشم منذ أكثر من 1400 سنة، وتبقى كل مساعي وأحلام ومشاريع ولادة دولة وطنيّة محض أضغاث أحلام، تتبدد على مرارة وقسوة جدار ثارات ذو النّورين وثارات الحسين وسرديّة مظلوميّة عليّ وكسر ضلع فاطمة!










