أعلن زعيم التيار الوطني الشيعي مقتدى الصدر في 28 مارس 2025 مقاطعة الانتخابات البرلمانية العراقية المقررة في 11 نوفمبر 2025، مما أحدث تحولاً مفاجئاً في المشهد السياسي العراقي.
يأتي هذا القرار بعد سلسلة من الخطوات التي قام بها الصدر وتم تفسيرها على أنها استعدادات للمشاركة في الانتخابات، بما في ذلك إعادة هيكلة تياره وتغيير اسمه وزيارة المرجع الديني الأعلى السيد السيستاني.
ويبدو أن قرار المقاطعة يعكس موقفاً احتجاجياً ضد الفساد المستشري وهيمنة “قوى الدولة العميقة” على العملية السياسية، مما قد يؤثر بشكل كبير على نسبة المشاركة في الانتخابات والتوازنات السياسية في البلاد.
تفاصيل قرار المقاطعة وأسبابه المعلنة
أعلن مقتدى الصدر قراره بمقاطعة الانتخابات البرلمانية المقبلة رداً على سؤال من أحد أتباعه حول استعدادات التيار للانتخابات. وقال الصدر في بيانه: “ليكن في علم الجميع، ما دام الفساد موجوداً فلن أشارك في أي عملية انتخابية عرجاء، لا هم لها إلا المصالح الطائفية والحزبية بعيدة كل البعد عن معاناة الشعب”. كما نهى أنصاره عن الترشح والتصويت في العملية الانتخابية، معتبراً أن ذلك يمثل “إعانة على الإثم”.
وفي تبريره لقرار المقاطعة، أشار الصدر إلى أن ما يدور في المنطقة من كوارث كان سببها الرئيس “زج العراق وشعبه في محارق لا ناقة له بها ولا جمل”. وتساءل في بيانه: “أي فائدة ترجى من مشاركة الفاسدين والتبعيين والعراق يعيش أنفاسه الأخيرة، بعد هيمنة الخارج وقوى الدولة العميقة على كل مفاصله”.
تناقضات الموقف الصدري
يأتي قرار الصدر بالمقاطعة بعد شهر فقط من مطالبته أتباعه بتحديث بياناتهم الانتخابية، مما أثار توقعات واسعة في الشارع العراقي والطبقة السياسية بإمكانية عودة التيار إلى العملية السياسية. كما اتخذ الصدر خطوات عديدة في الفترة الأخيرة تم تفسيرها على أنها استعدادات للمشاركة في الانتخابات، منها إعادة هيكلة التيار الصدري سياسياً واجتماعياً، وإطلاق اسم “التيار الوطني الشيعي” عليه بدلاً من “التيار الصدري”.
ومن المثير للاهتمام أن الصدر، بعد إعلان المقاطعة، أصدر توجيهاً جديداً في 12 أبريل 2025 لأتباعه يشدد فيه على ضرورة تحديث سجلاتهم الانتخابية مع الاستمرار بالمقاطعة، حيث قال: “أكّدوا على ضرورة التحديث حتى في حال مقاطعة الانتخابات وعدم الاشتراك فيها.. فمن قاطع ولم يحدّث فلا أثر لمقاطعته”. هذا التناقض الظاهري يثير تساؤلات حول الأهداف الحقيقية وراء قرار المقاطعة.
تحليلات وتفسيرات لقرار الصدر
تعددت التحليلات والتفسيرات لقرار الصدر بمقاطعة الانتخابات. فقد أوضح الباحث في الشأن السياسي العراقي المقرب من التيار الوطني الشيعي، رافد العطواني، أن الصدر يرى أن “العملية السياسية في العراق ذاهبة إلى الأفول والضياع أو النهاية، والعراق ينخره الفساد في كل مفاصله، وأن مشاركة التيار مع التبعيين والفاسدين هي مضيعة لعملية الإصلاح”. كما أشار العطواني إلى أن الصدر ببيانه ربما “يستشرف حدثاً كبيراً سيقع في العراق أو انهيار العملية السياسية”.
وفي سياق آخر، ذكر العطواني أن “الباب لم يُغلق تماماً، لأن التيار لا بد أن يعود للعمل السياسي، ربما بسبب ضغوط أو احتمال تلقي الصدر ضمانات أو رسائل من جهات مؤثرة تجعله يعدل عن قراره”. كما وصف حراك الصدر الأخير بأنه مجرد “تكتيك سياسي”، لافتاً إلى أنه “قطع عهداً على نفسه بعدم المشاركة في موضوعة المحاصصة أو التحالف مع الفاسدين”.
الخوف من الفشل أم رفض للنظام؟
يرى بعض المحللين أن قرار الصدر قد يكون نابعاً من الخوف من الفشل وابتعاد الحلفاء. فقد أشارت مصادر إلى أن الصدر “يفضل تجنب تكرار تجربة انسحابه من البرلمان، والتي سمحت لقوى الإطار التنسيقي بتشكيل الحكومة الحالية والسيطرة على مراكز النفوذ”. كما قد يكون لديه مخاوف “من عدم تحقيق نتائج مرضية تمكنه من بناء مشروعه السياسي: حكومة أغلبية وطنية”.
من جهة أخرى، تشير تصريحات الصدر ومواقفه المتكررة إلى رفضه المبدئي للمشاركة في نظام سياسي يراه فاسداً وخاضعاً للتأثيرات الخارجية. وهذا ما عبر عنه بوضوح في بيانه بقوله: “ما دام الفساد موجوداً فلن أشارك في أي عملية انتخابية عرجاء”.
تاريخ الصدر مع المقاطعة والعودة
ليست هذه المرة الأولى التي يقرر فيها الصدر مقاطعة العملية السياسية. فقد بدأت “سلسلة اعتزال الصدر للعمل السياسي عام 2013، حين لوّح بالانسحاب من الحكومة والبرلمان، واصفاً الأخير بالهزيل، ثم اعتزل رسمياً بعد 5 أشهر، لكنه تراجع بعد شهر واحد”. وفي عام 2014، “انسحب مجدداً وحل التيار، لكنه عاد للمشاركة في الانتخابات”. وفي عام 2016، “جمّد كتلة الأحرار البرلمانية، ثم أمر بإخلاء مكاتب التيار، وأنهى -في العام نفسه- مقاطعته لاجتماعات التحالف الوطني، ليعلن بعد عامين عدم ترشيح أي وزير من تياره للحكومة”.
وفي الانتخابات الماضية عام 2021، حصل التيار الصدري على 73 مقعداً من مقاعد مجلس النواب العراقي البالغة 329 مقعداً، إلا أن الصدر قرر في يونيو 2022 الانسحاب من العملية السياسية وعدم المشاركة في أي انتخابات مقبلة “حتى لا يشترك مع الفاسدين”، وقدم كافة نواب التيار عقب القرار استقالاتهم. وذلك بعد فشل محاولته تشكيل حكومة أغلبية مع الأحزاب الكردية والسنية فقط، دون مشاركة الأحزاب الشيعية المنافسة.
ردود الفعل والتداعيات المحتملة
محاولات ثني الصدر عن قراره
بدأ الإطار التنسيقي (المنافس الرئيسي للصدر) بالتحرك لإقناع الصدر بالعودة للساحة السياسية، وظهر ذلك واضحاً من خلال رسالة أمين عام حركة بابليون، ريان الكلداني، (المقرب من الإطار)، التي دعا فيها الصدر إلى العدول عن قراره تحت يافطة “ضعف المعارضة والأصوات الداعية إلى التصحيح”. وقد قال الكلداني في تغريدة له: “الى سماحة السيد مقتدى الصدر شعبكم بحاجة الى وقفتكم الشجاعة والاصطفاف معه لتصويب ما انحرف من مسار العملية السياسية”.
وتتخوف القوى السياسية الحاكمة في العراق من بقاء التيار الصدري خارج العملية السياسية، لأنه “سيكون أكثر قدرة على إثارة المتاعب من كونه بداخلها، خصوصاً إذا كانت القوة الخارجة عن المشاركة، هي التيار الصدري الذي يمثل أقوى تيار شعبي موحد القيادة”.
تأثير المقاطعة على المشهد السياسي
أثار قرار الصدر بمقاطعة الانتخابات “حالة من الفتور الشعبي” تجاه الانتخابات المقبلة، في حالة تمثل “تعاظم حالة الانفصال عن الواقع السياسي بعد سنوات الرفض والاحتجاج”. وهذا قد يؤثر على نسبة المشاركة في الانتخابات، خاصة مع وجود حوالي 30 مليون مواطن عراقي من أصل 46 مليون لهم الحق بالمشاركة والتصويت في الانتخابات البرلمانية المقبلة، وفقاً للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات.
كما فتح إعلان الصدر “الباب على مصراعيه لمنافسة من نوع آخر بين الكتل السياسية في العراق، حيث بدأت القوى السياسية مساعيها للاستحواذ على مقاعد الصدريين الـ73 التي تخلوا عنها”. وتشير التوقعات إلى أن “معظم الأصوات البديلة من الصدريين سوف تذهب إلى تحالف رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أو بعض القوى الناشئة، الأمر الذي سوف يحرم قوى شيعية كبيرة”.
في ضوء تاريخ الصدر مع العملية السياسية وتناقض تصريحاته وتحركاته، يبقى السؤال مطروحاً: هل قرار المقاطعة نهائي أم أنه جزء من تكتيك سياسي قد ينتهي بالعودة إلى المشاركة قبيل الانتخابات؟ وهل سيتمكن الإطار التنسيقي والقوى الأخرى من إقناع الصدر بالعدول عن قراره؟
ما هو مؤكد أن قرار الصدر بالمقاطعة سيؤثر بشكل كبير على المشهد السياسي العراقي، سواء استمر في موقفه أو تراجع عنه. ففي حالة استمراره بالمقاطعة، ستتأثر نسبة المشاركة في الانتخابات وستتغير خريطة التحالفات والتوازنات السياسية. وفي حالة عودته للمشاركة، سيكون له تأثير كبير على نتائج الانتخابات والتحالفات اللاحقة لتشكيل الحكومة. في كلتا الحالتين، يبقى الصدر لاعباً أساسياً في المشهد السياسي العراقي، سواء من داخل العملية السياسية أو من خارجها.










