أعلن وارن بافيت عن نيته التنحي عن منصبه كرئيس تنفيذي لشركة بيركشاير هاثاواي في نهاية عام 2025، وهو ما يعد نهاية حقبة استثنائية في عالم المال والأعمال.
هذا الرجل الذي حوّل شركة نسيج متعثرة إلى عملاق استثماري تبلغ قيمته أكثر من 1.16 تريليون دولار، يترك إرثاً لا يُضاهى بعد 60 عاماً من القيادة الحكيمة . بافيت، الملقب بـ”حكيم أوماها” و”أوراكل أوماها”، لم يكن مجرد مستثمر ناجح، بل كان فيلسوفاً للرأسمالية ومعلمًا لأجيال من المستثمرين.
النشأة والتكوين: بذور العبقرية المالية
وُلد وارن إدوارد بافيت في 30 أغسطس 1930 في أوماها بولاية نبراسكا، وأظهر موهبة فذة في التعامل مع المال منذ طفولته. في سن الحادية عشرة، اشترى أول سهم له، وفي الرابعة عشرة كان يجني 175 دولاراً شهرياً من توزيع صحيفة واشنطن بوست . تخرج بافيت من جامعة نبراسكا بدرجة البكالوريوس في علوم الإدارة، ثم حصل على درجة الماجستير في الاقتصاد من كلية كولومبيا للأعمال حيث تتلمذ على يد بنيامين جراهام، أبو استثمار القيمة .
التحول التاريخي: من بافيت بارتنرشيب إلى بيركشاير هاثاواي
في عام 1962، أسس بافيت شركة بافيت بارتنرشيب المحدودة التي بدأت تشتري أسهم بيركشاير هاثاواي، وهي شركة نسيج متعثرة في نيو بيدفورد. بحلول 1965، سيطر بافيت على الشركة بالكامل وحولها تدريجياً إلى شركة قابضة . تحت قيادته، تحولت بيركشاير من شركة نسيج بالكاد تبقى واقفة على قدميها إلى إمبراطورية استثمارية تمتلك شركات مثل:
- جيكو (GEICO) للتأمين على السيارات
- BNSF للسكك الحديدية
- ديري كوين لتجارة التجزئة
- حصص كبيرة في شركات مثل أبل وبانك أوف أمريكا
فلسفة الاستثمار: حكمة “أوراكل أوماها”
اعتمد بافيت فلسفة استثمارية بسيطة لكنها عميقة، مستمدة من مبادئ بنيامين جراهام في استثمار القيمة:
- الاستثمار طويل الأجل: “إذا لم تكن مستعداً لامتلاك سهم لمدة عشر سنوات، فلا تفكر في امتلاكه لعشر دقائق”
- الاستثمار في ما تفهمه: تجنب بافيت شركات التكنولوجيا لسنوات لأنه شعر أنه لا يفهمها جيداً
- هامش الأمان: شراء الأسهم بأقل من قيمتها الجوهرية
- الشركات ذات المزايا التنافسية الدائمة: مثل كوكاكولا التي استثمر فيها مليار دولار وأصبحت قيمتها 14 مليار دولار اليوم
- الصبر وقوة الفائدة المركبة: “الثروة مثل كرة الثلج – كل ما تحتاجه هو منحدر طويل وكرة ثلجية لتبدأ”
الإنجازات الرقمية: تحويل الدولارات إلى تريليونات
تحت قيادة بافيت، حققت بيركشاير هاثاواي معدل نمو سنوي مركب بنسبة 20% بين 1965 و2024، مقارنة بنحو 10% لمؤشر S&P 500 . بعض الإنجازات البارزة:
- تحولت القيمة السوقية لبيركشاير من حوالي 10 ملايين دولار في الستينيات إلى أكثر من 1.16 تريليون دولار اليوم
- بلغت السيولة النقدية للشركة مستوى قياسياً عند 347.7 مليار دولار في 2025
- أرباح تشغيلية سنوية بلغت 47.4 مليار دولار في 2024
التنحي والتوريث: تحول تاريخي في القيادة
في الاجتماع السنوي لمساهمي بيركشاير في 2025، أعلن بافيت البالغ 94 عاماً عن نيته التنحي عن منصب الرئيس التنفيذي نهاية العام، مع الاحتفاظ بأسهمه والبقاء متورطاً في الشركة . وقد عين جريج أبيل، نائب رئيس مجلس الإدارة للعمليات (باستثناء التأمين)، كخليفة له .
أبيل، الذي انضم إلى بيركشاير في عام 1992 عندما استحوذت على شركة الطاقة كالEnergy التي كان يديرها، تمت ترقيته إلى منصب نائب الرئيس للعمليات غير التأمينية في 2018 . يقول بافيت عن هذا القرار: “إنه قرار اقتصادي لأنني أعتقد أن احتمالات بيركشاير ستكون أفضل تحت إدارة جريج أكثر من إدارتي” .
التحديات الأخيرة والانتقادات السياسية
في فترة تقاعده الوشيك، واجه بافيت تحديات كبيرة:
- انتقد بشدة سياسات الرئيس ترامب التجارية، واصفاً الرسوم الجمركية بأنها “خطأ كبير” و”أعمال حرب”
- حذر من أن استخدام التجارة كسلاح قد يؤدي إلى عدم استقرار عالمي
- شهدت بيركشاير انخفاضاً في الأرباح التشغيلية بنسبة 14% في الربع الأول من 2025
- تراجع أرباح قطاع التأمين بنسبة 50% مقارنة بعام 2024
الإرث الإنساني: العطاء والسخاء
بالإضافة إلى إنجازاته الاستثمارية، اشتهر بافيت بعطائه الخيري الهائل:
- تعهد بالتبرع بـ99% من ثروته للأعمال الخيرية
- أطلق حملة “تعهد العطاء” مع بيل غيتس في 2010، حاثاً المليارديرات على التبرع بنصف ثرواتهم
- تبرع بجزء كبير من ثروته لمؤسسة بيل ومليندا غيتس
الدروس المستفادة من مسيرة بافيت
تقدم مسيرة بافيت دروساً قيمة للمستثمرين وقادة الأعمال:
- قوة التركيز: استراتيجية “القائمة الثانية” الشهيرة التي علمها لطياره الشخصي، حيث يركز على أهم 5 أهداف ويتجاهل البقية
- الاستثمار في الذات: كان بافيت قارئاً نهماً، يقضي 80% من يومه في القراءة
- التواضع رغم الثروة: عاش بافيت حياة بسيطة في منزل متواضع اشتراه عام 1958
- الصبر والمثابرة: “الأسواق هي جهاز لنقل المال من الصبورين إلى غير الصبورين”
- الأخلاق في الأعمال: “يستغرق 20 عاماً لبناء السمعة وخمس دقائق لتدميرها”
الخاتمة: نهاية عصر وبداية جديد
بينما يستعد وارن بافيت لترك منصبه كرئيس تنفيذي لبيركشاير هاثاواي بعد 60 عاماً، يترك وراءه إرثاً لا يقاس فقط بالدولارات والتريليونات، بل بتأثيره العميق على فلسفة الاستثمار والأعمال. لقد أثبت أن النجاح المالي يمكن تحقيقه بالنزاهة، والصبر، والتفكير طويل الأجل. كما قال بنفسه: “الثروة هي وسيلة لتحقيق الحرية، لكنها ليست الغاية في حد ذاتها”. مع انتقال القيادة إلى جريج أبيل، ستبقى حكمة بافيت دليلاً للمستثمرين لأجيال قادمة .
لكن السؤال الآن: هل ستستمر بيركشاير في العظمة بدون بافيت؟ ومن هو الرجل الذي اختاره لخلافته؟ وما هي التحديات التي تواجه الإمبراطورية بعد رحيله؟





