أمينة خيري
ربما قابلت محمد أبوالغيط مرة أو مرتين قبل سنوات كثيرة. لكنى أعرفه حق المعرفة. إنها إحدى مميزات الـ«سوشيال ميديا» – رغم مساوئها الكثيرة- تدلك على أشخاص لا تعرفهم بالضرورة أو تعرفهم بالكاد، لكن عملًا بمبدأ جدتى «لا تذم ولا تشكر إلا بعد سنة وستة أشهر»، فإن الحكم على معارف الـ«سوشيال ميديا» يعمل بالقواعد ذاتها. تقرأ ما يكتبه فلان، فتشعر أن ما يكتبه وثيق الصلة بك حتى لو لم ولن تتعرض لأى مما يكتب. إنها من أسرار الكتابة التى ستبقى سرية، والحمد لله كثيرًا على نعمتها وإلا لتحولت إلى سلعة يبيعها الـ«إنفلونسرز» ويشتريها المغيبون. كتابات محمد أبو الغيط – رغم مأساويتها الشديدة فى السنوات القليلة الأخيرة – فيها مغناطيس غير قابل للتفسير.
العنوان المزمن المستهلَك يقول إن «محمد أبوالغيط توفى بعد معركة مع السرطان»، لكن واقع الأمر مختلف.. فقد حول الطبيب والكاتب والصحفى الفذ محمد أبوالغيط معركته مع المرض إلى كيان مقروء يبحث عنه كثيرون – كلما استطاع أن يلملم قواه ويكتب – ليتابعوا بخليط مفزع من المتعة الشديدة والحزن الغالب. أدمنت قراءة ما يكتبه، وأعترف بأننى كلما أقرأ ينتابنى شعور عارم بتأنيب الضمير. فكيف لى أن أشعر بهذا الكم من الاستمتاع بينما أقرأ التفاصيل الدقيقة لآلامه الجسدية والنفسية المبرحة، وسرده لعلاقته الفريدة بحبيبته التى هى زوجته، وكيف تحولت من الفتاة الرقيقة التى أحبها منذ رآها إلى «سوبر هيرو» تدير شؤون مرضه والبيت وابنهما الصغير بنفس الرقة، ولكن بحسم ومنطق وتعقُّل وحب وعشق. رحل فى لندن التى انتقل إليها مع أسرته الصغيرة للعمل والاستقرار. لكن هذا الانتقال عضد علاقاته وروابطه مع الأصدقاء والمعارف، ومنهم كثيرون لم يقابلهم أو يعرفهم عن قرب، وأنا منهم. حين قرأت خبر رحيله صباح أمس، وهو الخبر الذى كان متوقعًا فى ضوء سلسلة التدوينات القصيرة فى عددها الطويل وبالغة الإمتاع رغم بؤسها وكآبتها فى سردها تحت عنوان «وردتى البيضاء الخارقة» والوردة زوجته الـ«سوبر هيرو» (إسراء)، انتابتنى توليفة غير متناغمة من المشاعر.. المؤكد أنه ارتاح من هذه الآلام الجسدية والنفسية المبرحة، لكن المؤكد أيضًا أن أسرته الصغيرة والكبيرة مجروحة وملتاعة.. المؤكد أن ما فعله فى مسيرته القصيرة بحكم السنين الطويلة والعميقة فى ضوء ما قدم من عمل إعلامى استقصائى وأدبى واقعى وأشياء أخرى كثيرة موثق وباقٍ.. لكن المؤكد أيضًا أنه لن يزيد لأن صاحبه لم يعد موجودًا.
صدر له قبل أيام كتاب «أنا قادم أيها الضوء» الذى حرره الزميل أحمد سمير. ويبدو أن محتوى الكتاب «باين من عنوانه». بقى أن أشير إلى تكريم محمد أبوالغيط فى «منتدى مصر للإعلام» قبل أيام، وهى فكرة تليق بـ«أبوالغيط» وغير مستغربة من رئيسة المنتدى نهى النحاس، فهو تكريم بألف كلمة.. أوفى محمد أبوالغيط بوعده للضوء ورحل إليه.
( المصري اليوم )