في الوقت الذي يمثل فيه دونالد ترامب أمام المحاكم الأمريكية بتهم جنسية خطيرة، أبرزها دفع رشاوى لطمس علاقته بممثلة أفلام إباحية، استقبلته العاصمة الإماراتية أبو ظبي بمشهد أثار الجدل: صفان من الفتيات الإماراتيات اليافعات يرقصن أمامه، يتمايلن بشعورهن الطويلة في حفل ترحيبي رسمي.
السؤال المشروع: من الذي قرر أن يكون مشهد الرقص الأنثوي هو واجهة الترحيب بشخص تهمته الرئيسية أمام القضاء الأمريكي تتعلق بسوء السلوك الجنسي؟ هل هناك سوء تقدير في البروتوكول الرسمي؟ أم أن هناك رسالة ضمنية في توظيف الجسد الأنثوي كوسيلة لاسترضاء شخصية مثيرة للجدل كالمرشح الجمهوري الأوفر حظًا للانتخابات الرئاسية المقبلة؟
مشهد استقبال ترامب بفتيات صغيرات لا يحمل فقط دلالات استعراضية، بل يتقاطع مباشرة مع الاتهامات الأخلاقية الموجهة إليه. فالزعيم الأمريكي الذي اعتاد التفاخر بعلاقاته النسائية وتورطه في قضايا تحرش وابتزاز جنسي، يجد نفسه الآن مُحتفى به في دولة خليجية محافظة بمشهد يصعب تبريره دينيًا أو ثقافيًا أو حتى سياسيًا.
قضايا ترامب الجنسية ليست مسألة داخلية أمريكية فحسب، بل تحولت إلى عنصر محوري في صورته الدولية. استقبال رجل متهم باستغلال النساء بفتيات يرقصن أمامه في مناسبة رسمية، يفتح الباب واسعًا أمام الانتقادات، خاصة من منظمات حقوق المرأة والطفولة، التي قد ترى في ذلك نوعًا من التطبيع مع سلوكيات غير أخلاقية.
السؤال الأوسع هنا لا يتعلق فقط بالإمارات، بل بكل عاصمة خليجية تستقبل ترامب وكأن شيئًا لم يكن: هل يتم تجاهل قضاياه الأخلاقية من أجل مكاسب سياسية واقتصادية؟ وهل هذا التجاهل يتم على حساب القيم التي طالما تشدقت بها هذه الأنظمة في خطابها المحلي والديني؟
المشهد الذي شهدته أبو ظبي قد يبدو بسيطًا للبعض، لكنه يحمل دلالات عميقة تتعلق بعلاقة السياسة بالجنس، وتوظيف المرأة في السياقات الرسمية، وصورة الخليج أمام العالم، خاصة حين يتعلق الأمر بقادة غربيين تلاحقهم فضائح من هذا النوع.
رغم الصورة البراقة التي تحرص دولة الإمارات على تصديرها للعالم كواحة للحداثة والرفاهية والانفتاح، إلا أن تقارير حقوقية ودولية متزايدة تسلط الضوء على وجه أكثر قتامة يتعلق بتفشي ظواهر الدعارة وتجارة البشر والاستغلال الجنسي للنساء، وسط شبهات بتواطؤ رسمي وتراخٍ قانوني، بل وتصريحات تثير الجدل من مسؤولين سابقين في الدولة، أبرزهم الفريق ضاحي خلفان، الذي قال في إحدى تصريحاته المثيرة إن “الدعارة ليست محرّمة شرعًا، بل محرّمة اجتماعيًا”، وهو ما أثار عاصفة من الانتقادات في الأوساط الحقوقية والدينية.
العديد من المنظمات الدولية، وعلى رأسها هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية ومؤسسة “ووك فري” لمكافحة الرق الحديث، أشارت في تقارير متفرقة إلى أن الإمارات، وتحديدًا إماراتي دبي وأبو ظبي، تُعد من الوجهات الكبرى لتجارة الجنس في الشرق الأوسط.
إذ يتم استقدام الآلاف من النساء من جنوب آسيا وأفريقيا وشرق أوروبا تحت غطاء عقود عمل، ليجدن أنفسهن مرغمات على العمل في شبكات دعارة منظمة، غالبًا بإشراف عناصر لها صلات مباشرة بمؤسسات أمنية واقتصادية في الدولة.
التقارير الحقوقية تؤكد أن الكثير من النساء يتم احتجازهن قسرًا، وتُصادر جوازات سفرهن فور وصولهن، ويُجبرن على العمل في ظروف قاسية، دون حماية قانونية أو قدرة على الوصول إلى العدالة. ومع غياب إعلام حر داخل الإمارات، لا يُسلّط الضوء بشكل كافٍ على هذه الممارسات، في حين يتم قمع أي محاولة لكشفها أو الحديث عنها داخل البلاد.
وفي عام 2023، هزت قضية صادمة الرأي العام البريطاني والدولي، عندما كشفت صحف بريطانية أن سيدة بريطانية تعرّضت للاغتصاب على يد مسؤول إماراتي بارز يُعرف بلقب “وزير السعادة”، وهي قضية طُمست معالمها بسرعة وسط ضغوط دبلوماسية ومحاولات تسوية مالية خارج المحاكم، حسبما أفادت صحيفة “ديلي ميل” و”ذا تايمز”.
الضحية، التي تحدثت لوسائل إعلام بريطانية، أكدت أنها تعرضت للترهيب والتهديد من قبل عناصر أمنية إماراتية بعد محاولتها تقديم شكوى، ما اضطرها للفرار من البلاد والعودة إلى بريطانيا.
هذه القضية فتحت باب النقاش مجددًا حول الحصانة القانونية التي يتمتع بها بعض المسؤولين الإماراتيين، والتعامل مع النساء الأجنبيات كعنصر ترفيهي في دوائر السلطة، ضمن ثقافة يغيب فيها الردع وتغيب فيها الشفافية.
أما التصريحات المتكررة للفريق ضاحي خلفان، نائب رئيس شرطة دبي الأسبق، فقد أثارت موجات جدل بسبب ما اعتبره البعض “محاولات لتبرير ظاهرة الدعارة دينيًا”. ففي تصريح موثق على “إكس” (تويتر سابقًا)، قال خلفان إن “الدعارة ليست محرّمة شرعًا، لأنها نوع من الزنا غير الموجب للحد”، مشيرًا إلى أن المنع هو “اجتماعي وقانوني لا ديني”.
هذه التصريحات تزامنت مع تقارير عن انتشار “بيوت الدعارة” في أحياء فاخرة ومناطق حيوية بدبي، بما فيها مارينا، والبرشاء، وشارع الشيخ زايد، حيث ترتبط بعض الأنشطة بأسماء رجال أعمال نافذين، وفقًا لما نشرته تحقيقات صحفية غربية.
وتُعد الإمارات من الدول المصنفة في تقارير وزارة الخارجية الأمريكية ضمن الفئة الثانية لمكافحة الاتجار بالبشر، أي أنها تبذل جهودًا لكنها لا تستوفي الحد الأدنى من المعايير الدولية، خصوصًا فيما يتعلق بحماية الضحايا وتوفير آليات فعالة لملاحقة الشبكات المتورطة.
من جانب آخر، يتحدث خبراء حقوق الإنسان عن تزايد استخدام “الرق الجنسي” في الفنادق الكبرى والمراكز التجارية، حيث تعمل بعض هذه الشبكات تحت مظلة “خدمات مرافقة” تُروّج علنًا عبر الإنترنت، دون تدخل فعلي من السلطات، ما يثير الشكوك حول ما إذا كان هناك نوع من “التغاضي الرسمي” أو حتى “الاستفادة الاقتصادية غير المباشرة” من هذه الأنشطة.
وتشير ناشطات نسويات في الخليج والعالم العربي إلى مفارقة قاسية: “بينما يتم تقييد حرية النساء المواطنات في الإمارات في مجالات التعبير والسفر، يتم في المقابل تسهيل استقدام آلاف النساء للعمل في مجالات مشبوهة تُعرضهن للاستغلال الجنسي”، بحسب الناشطة البحرينية مريم الخواجة.
وفي ظل غياب حرية الصحافة واستقلال القضاء داخل الدولة، تبقى أغلب هذه الانتهاكات بلا مساءلة، وتُطوى ملفاتها وراء جدران الصمت الرسمي والدبلوماسية النشطة، خصوصًا حين يكون المتورطون من رجال السياسة أو المقربين من دوائر الحكم.
ملف الدعارة وتجارة البشر في الإمارات لم يعد محصورًا في التقارير الحقوقية، بل بات قضية رأي عام عالمي تتقاطع فيها الأخلاق بالقانون، والسياسة بالاقتصاد، والسكوت بالتواطؤ.
ورغم المحاولات الرسمية لتلميع الصورة، فإن الواقع الميداني وشهادات الضحايا والناشطين تؤكد أن ثمة ما يُدار خلف واجهة الأبراج الزجاجية، وما لا يُقال خلف شعارات السعادة والتسامح.
في النهاية، تظل زيارة ترامب للخليج اختبارًا مزدوجًا: اختبار لموقفه من التهم الأخلاقية التي يواجهها، واختبار لمواقف الدول التي تستقبله وكأن التاريخ لا يسجل، وكأن صور الفتيات اليافعات لا تقف متناقضة مع سجل الرجل الأخلاقي المعروف.










