في لحظة تُسوَّق فيها وعود النهضة الزراعية بشعارات براقة، تخرج المبادرة الرئاسية لاستبدال سلالات الأبقار المحلية بأخرى مستوردة لتضع الريف المصري أمام مخاطرة وجودية.
ما يُقدَّم كحل علمي لزيادة إنتاج اللبن بنسبة 300%، قد يتحوّل إلى كارثة بيئية واقتصادية واجتماعية، تُهدد بانقراض السلالات الوراثية المحلية، وتُغرق الفلاح في ديون لا قِبَل له بها.
فهل نحن أمام مشروع تنموي حقيقي؟ أم فصل جديد من فقدان السيادة الغذائية وتحطيم الاكتفاء الذاتي باسم “التحديث”؟

في ظل التحديات الاقتصادية والبيئية التي تواجهها مصر، أثارت مبادرة الرئيس عبد الفتاح السيسي لاستبدال سلالات الأبقار المحلية بأخرى مستوردة عالية الإنتاجية جدلاً واسعاً.
بينما تروج الخطط الرسمية لوعود بزيادة الإنتاجية بنسبة 300%، تبرز تساؤلات جوهرية حول مدى واقعية هذه الرؤية في ظل معطيات الواقع الريفي المصري والبيئة التشغيلية للثروة الحيوانية.
الإشكالية البيئية: فجوة التكيف المناخي
الحساسية الحرارية للسلالات المستوردة
تعاني السلالات الأوروبية مثل الهولشتاين من إجهاد حراري حاد في المناخ المصري، حيث تصل درجات الحرارة إلى مستويات تفوق قدرتها على التكيف.
“تربية الماشية تحولت من مهنة إلى هواية”، بتلك العبارة بدأت لبنى الحاوي (65 سنة) تروي تأثير ما خلقه ارتفاع أسعار الأعلاف داخل مصر فيها وفي أقرانها من صغار المربين، مؤكدة أن الغلاء جعلها تخرج تماماً من دائرة التجارة، واقتصر نشاطها على عدد محدود من الماشية.
في ما يتعلق بالأساليب المتبعة من صغار المربين للتعامل مع أزمة الغلاء، التي ضربت الأعلاف، تقول لبنى، في حديثها إلى “المنشر”، إن “الارتفاع الجنوني في أسعار الأعلاف دفعنا إلى دمج أصناف أقل كلفة مثل البنجر، الذي تتقبله الماشية، بغرض تقليل النفقات”.
ما تقوله السيدة الستينية يتوافق معه مصطفى وهبة، رئيس شعبة القصابين بالغرفة التجارية بالقاهرة، الذي تطرق إلى التحديات التي تواجه قطاع تربية الماشية في مصر، منها “نقص توفر الأعلاف وارتفاع أسعارها”، اللذين أديا إلى خروج عدد من الفلاحين من منظومة التربية
تشير دراسات ميدانية إلى أن الإنتاجية تنخفض بنسبة 25-30% خلال أشهر الصيف. في المقابل، تتمتع السلالات المحلية بصفات وراثية تمكنها من تحمل الظروف المناخية القاسية، مع معدلات وفيات أقل بنسبة 40% مقارنة بنظيراتها المستوردة.

متطلبات تغذوية غير متوافقة
تحتاج البقرة الهولشتاين إلى 12 كجم يومياً من الأعلاف المركزة عالية البروتين، وهي تكلفة تفوق قدرة 78% من المربين الصغار وفقاً لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة.
هذا النظام الغذائي المتخصص يصطدم بندرة المراعي الطبيعية وارتفاع أسعار الأعلاف المستوردة، التي تشكل 60% من مدخلات التغذية.
الفلاح البسيط لم يعد قادراً على الاستمرار في تربية الماشية، وفق ما يؤكده وهبة لـ”المنشر”، عازياً الأسباب إلى الكلفة المرتفعة للأعلاف، إذ إن أسعارها “ارتفعت بشدة، وبعضها غير متوفر”.
وتنتقل لبنى بدفة الحديث إلى الأسباب التي دفعتها إلى تقليص نشاطها، “الأعلاف لم تعد متوفرة بالسهولة نفسها كما كانت في الماضي، الأمور باتت صعبة للغاية، والغلاء أضر بكل شيء. أعمل في تربية الماشية منذ 40 عاماً، وكنا نكتفي بإطعامها من محاصيل أرضنا، لكن الأعلاف أصبحت مغشوشة، حتى إن الماشية تشمها ولا تأكلها”، وفق تعبيرها.
نضطر حالياً إلى تبني استراتيجيات جديدة في التعامل مع الأعلاف، بتجريب خلطات جديدة تحتوي على البنجر، وفقاً للسيدة الستينية التي أوضحت أن كلفة تربية العجول ارتفعت بصورة غير مسبوقة، إذ إن “العجل الواحد كلفة إطعامه أكثر من 400 جنيه (8.23 دولار أميركي) يومياً في الأعلاف، بينما كان يكلف سابقاً نحو 100 جنيه (2.06 دولار أميركي) فقط”.

الإخفاقات التاريخية: دروس من تجارب سابقة
فشل تجارب الاستيراد السابقة
كشفت تحقيقات صحفية عن نفوق 13 بقرة مستوردة من سلالة “سيمنتال” في محافظة البحيرة خلال عام 2022، نتيجة عدم تكيفها مع الأمراض المتوطنة مثل الدودة الكبدية والحمى القلاعية.
البيانات الرسمية تشير إلى أن 95% من الأبقار المستوردة تعاني من مشاكل صحية مزمنة خلال أول ستة أشهر من وصولها.
وبحسب رئيس شعبة القصابين بالغرفة التجارية بالقاهرة فإن هناك تحولاً كبيراً في كيفية العمل في هذا القطاع، إذ “أصبح الاعتماد بصورة أكبر على المزارع، وأكثر من 50 في المئة من الفلاحين البسطاء اضطروا إلى التخلي عن تربية الماشية”، موضحاً “الثروة الحيوانية في مصر تأثرت منذ عام 2004 خلال فترة انتشار الحمى القلاعية، بعد أن نقلت العجول المستوردة العدوى إلى الماشية المحلية، ومنذ ذلك الحين تراجعت أعداد الماشية بصورة ملاحظة.”
وبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري، انخفضت أعداد رؤوس الماشية والحيوانات في مصر من 19.9 مليون رأس في عام 2010 إلى 8.1 مليون رأس في 2021، بينما أعلنت وزارة الزراعة المصرية في يونيو (حزيران) الماضي، بلوغ عدد رؤوس الثروة الحيوانية في مصر 7.5 مليون رأس خلال 2023 من دون الدواب.
وحول تأثير الأزمات المتعاقبة في أسعار الماشية رصدت لبنى ذلك من واقع عملها “كانت أسعار الماشية البلدي لا تتجاوز 35 ألف جنيه (720 دولاراً أميركياً)، أما الآن فالبقرة تصل إلى 75 ألف جنيه (1542 دولاراً أميركياً)، والجاموسة تقدر بنحو 100 ألف جنيه (205 دولارات أميركية)، لم يعد من الممكن الاعتماد على تربية الماشية مصدراً للدخل، إذ أصبحت تجارة خاسرة، بسبب ارتفاع الأسعار، عدد من المربين الذين أعرفهم خرجوا تماماً من هذا المجال، وبعضهم أغلق مزارعه”.

إشكالية البنية التحتية البيطرية
تعاني 63% من القرى المصرية من غياب الوحدات البيطرية المجهزة، بينما تعتمد 99% من الخدمات الصحية للثروة الحيوانية على أطباء بيطريين مستقلين غير مدربين على التعامل مع السلالات المستوردة.
هذا الوضع يفسر ارتفاع معدلات نفوق العجول المستوردة إلى 22% خلال العام الأول، مقارنة بـ7% فقط للسلالات المحلية.
لم تتخل لبنى عن نشاطها المعتاد، لكنها قررت تقليص أعداد الماشية التي تربيها، “ما زلت مستمرة في التربية، وإن قلصت العدد، لأنني أمتلك أرضاً تساعدني في توفير بعض الموارد لتربية الماشية. لكن الذين لا يمتلكون أراضي يجدون الأمر مستحيلاً، حتى ولو كانت مجرد هواية”.
وحول الحلول الممكنة لمواجهة الأزمة يقترح وهبة ضرورة الاهتمام بزراعة الأعلاف المحلية، مثل فول الصويا والذرة، ودعم الوحدات البيطرية لمساعدة الفلاحين في مواجهة الأوبئة، كما شدد على أهمية دعم توفير الأمصال والأعلاف لتعود أعداد الماشية لمستوياتها الطبيعية.
وكانت مصر تنتج 60 في المئة من حاجاتها من اللحوم، وتستورد 40 في المئة فقط، لكن الآن انعكست النسبة وأصبحت تعتمد بصورة أكبر على الاستيراد. بحسب وهبة، الذي أرجع السبب الرئيس في زيادة أسعار اللحوم إلى “ضعف

الأبعاد الاقتصادية: بين وعود التنمية ومخاطر الإفلاس
تكاليف باهظة وغير مستدامة
ووفق ما أعلنه وزير الزراعة واستصلاح الأراضي علاء فاروق، في مقطع فيديو نشر على مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء المصري في سبتمبر (أيلول)، فإن الوزارة تعمل على تحسين سلالات الإنتاج الحيواني والثروة الحيوانية من حيث الإنتاجية، مشيراً إلى البدء في تنفيذ برامج التطعيمات والتحسين الوراثي، إضافة إلى إدخال سلالات عالية الإنتاجية تتكيف مع الأجواء المصرية، وتسهم في زيادة إنتاجية الألبان مقارنة بالماضي.
بينما أوضحت السيدة الستينية لبنى أنها ما زالت تحاول التكيف مع الوضع الحالي من خلال خلط عدد من الأعلاف المنخفضة الكلفة لـ”مواجهة غلاء الأسعار وغش الأعلاف”، لكنها لم تخف قلقها من اختفاء بعض أنواع الأعلاف تماماً، “كنا نشتري الكثب بـ400 جنيه (8.23 دولار أميركي)، ثم ارتفع سعره إلى 2000 جنيه (41.14 دولار أميركي) قبل أن يختفي تماماً من الأسواق، كما زادت أسعار الردة والذرة بصورة غير معقولة من 550 جنيهاً (11.31 دولار أميركي) للشيكارة بعدما كانت 250 جنيهاً (5.14 دولار أميركي)”.
تبلغ تكلفة إنشاء مزرعة متوسطة (100 رأس) ما بين 40-50 مليون جنيه، مع مصاريف تشغيلية يومية تصل إلى 500 جنيه للرأس الواحدة.
هذه الأرقام تعني أن المربين الصغار سيحتاجون إلى 15 عاماً لاسترداد الاستثمارات الأولية، وفقاً لتحليلات البنك الزراعي المصري.

فخ الديون وسياسات الإقراض
تعتمد المبادرة على قروض ميسرة بفائدة 5%، لكن تقارير ميدانية تكشف أن 43% من المربين الذين شاركوا في برامج سابقة تعثروا في السداد، مما أدى إلى مصادرة 3200 رأس ماشية خلال 2023 فقط.
نظام الأقساط الشهرية الثابتة لا يراعي التقلبات الموسمية في أسعار الألبان، مما يزيد مخاطر التخلف عن السداد.
وحذر رئيس شعبة القصابين من أن العجول البلدية مهددة بالانقراض، “إذا استمر الوضع الحالي لن نجد العجول البلدية في المستقبل، إذ تحول عدد منها إلى سلالات هجينة”، مضيفاً “البلدي لا يزيد وزنه بصورة كبيرة، لذلك نتجه إلى تهجين سلالات جديدة وتطوير السلالات الحالية.”
وفي السياق أكد رئيس قطاع الثروة الحيوانية والداجنة بوزارة الزراعة طارق سليمان في تصريحات متلفزة أن مصر تعتمد على استيراد سلالات من اللحوم العالية الإنتاجية، التي تساوي إنتاجيتها في الأقل ضعف السلالات المحلية، والسلالات المستوردة تنتج نحو 40 كيلوغراماً من الألبان يومياً، في حين أن السلالات المحلية لا تتعدى سبعة كيلوغرامات من الألبان يومياً، وأضاف أنه يجري تهجين السلالات العالية الإنتاجية مع السلالات المحلية المقاومة للأمراض والمتأقلمة مع الظروف المناخية المصرية.

البدائل الممكنة: نحو نموذج تكاملي
الحفاظ على الأصول الوراثية المحلية
تمتلك مصر 14 سلالة محلية مهددة بالانقراض، تتميز بقدرتها على إنتاج 7 كجم حليب يومياً بمعدل استهلاك مائي أقل بنسبة 40% مقارنة بالسلالات المستوردة.
برامج التهجين المدروس يمكن أن تعزز الإنتاجية مع الحفاظ على الصفات التكيفية.
تعزيز البنى التحتية الداعمة
يتطلب النجاح تطوير 1500 وحدة بيطرية جديدة بحلول 2030، مع تدريب 5000 فني متخصص في رعاية السلالات عالية الإنتاج.
التجربة المغربية تظهر أن الدعم البيطري المكثف خفض معدلات نفوق العجول المستوردة من 18% إلى 6% خلال ثلاث سنوات.

ضرورة مراجعة النموذج
في ظل أزمة ارتفاع أسعار اللحوم وتراجع الثروة الحيوانية في مصر، يشير نقيب الفلاحين حسين أبو صدام إلى أن أحد أبرز الأسباب التي أدت إلى هذه الأزمة عدم وجود مراع طبيعية في مصر، مما يجعل الاعتماد بصورة كاملة على الأعلاف سواء المزروعة أم المصنعة.
يقول أبو صدام، في حديثه إلى “المنشر”، إن “مصر تعتمد بصورة كبيرة على استيراد أكثر من 50 في المئة من مستلزمات العلف من الخارج، مما يجعل سعر الدولار المتحكم الرئيس في كلفة الأعلاف، ومع ارتفاع سعره ترتفع كلفة الإنتاج الحيواني بصورة كبيرة”.
وأضاف “لجأ بعض المربين إلى ذبح الإناث والعجول الصغيرة (البتلو)، مما أثر سلباً في الثروة الحيوانية في مصر، والسوق المحلية أصبحت تعتمد بصورة متزايدة على اللحوم المستوردة”، مشيراً إلى تهجين معظم المواشي في مصر بسلالات جديدة، بهدف زيادة الإنتاجية سواء في اللحوم أم الألبان، إذ كانت السلالات المحلية محدودة الإنتاجية.
ومع ارتفاع تكاليف التربية وعدم وجود دعم كاف من الحكومة، اضطر عدد من المربين المحليين إلى بيع قطعانهم والخروج من السوق، معتقداً أن الحل “يكمن في دعم الحكومة لصغار المربين من خلال توفير الأعلاف بأسعار معقولة، إضافة إلى تقديم الدعم لمزارعي الأعلاف المحليين”.

الواقع يشير إلى أن الاستبدال الكامل للسلالات يكرر أخطاء الماضي، بينما الجمع بين التحسين الوراثي للسلالات المحلية واستيراد محدود للذكور عالية الجودة قد يحقق نتائج مستدامة.
النجاح يتطلب تبني سياسات مرنة تراعي التنوع البيئي والاقتصادي للريف المصري، بدلاً من الحلول الجاهزة التي تتعارض مع طبيعة النظم الإنتاجية القائمة.











