وصلت إسطنبول يوم الانقلاب عصر يوم 15 تموز/يوليو 2016، تأخرت طائرتي بسبب اغلاق مؤقت في المطار التركي لكني عرفت بالانقلاب وانا في مطار بروكسل. ومن لحظة خروجي من المطار، بدا مشهد القتال واضحا الدبابات المحترقة، ناقلات الجنود التي يتصاعد الدخان منها، عند مفترقات الطرق، اصطفت سيارات مشتعلة، بينها سيارات شرطة وأخرى مدنية.
بدت إشارات إطلاق النار لا تزال طرية على الأرصفة. على الرغم من أن المعارك استمرت في بعض نقاط إسطنبول حتى صباح اليوم التالي – خاصة على جسر البوسفور –إلا أن الانقلاب، بدا رغم ضخامته الظاهرة، ضعيف السيطرة، غير متماسك، أقرب إلى فوضى موجهة منه إلى خطة عسكرية محكمة. وهو ما دفع كثيرين لاحقا، وأنا من بينهم، للشك في طبيعته. بعد سنوات، حين قرأت كتاب Turkey’s Mission Impossible للمفكر التركي جنكيز تشاندار، بدأت الصورة تتضح. لم يكن الانقلاب مجرد عملية فاشلة، بل كان انقلابا مفضوحا قبل أن يبدأ.
بحسب ألكسندر دوغين الذي التقيته بعد سنتين في موسكو من اجل ترجمة كتاب له الى العربية فإن موسكو قدمت تحذيرات مسبقة لأنقرة، تضمنت تفاصيل دقيقة عن االانقلاب بالساعة والمكان وأسماء المنفذين. ارتعب اردوغان وارسل رسالة اعتذار لبوتين في أواخر يونيو 2016 عن اسقاط الطائرة الروسية.
كما لعب ألكسندر دوغين، الملقب بـعقل بوتين الاستراتيجي، دورا محوريا، إذ زار أنقرة قبيل الانقلاب، واجتمع بمسؤولين أمنيين، وحذرهم من خطة انقلابية وشيكة، ثم غادر البلاد عشية التنفيذ. هذه الزيارة لم تكن دبلوماسية، بل تنتمي لما يعرف في السياسة الواقعية بـالقنوات الخلفية لصنع التحالفات.
يقدم الباحث التركي كرم هاس طرحا بالغ الأهمية عن تحول استراتيجي عن حلف الناتو، بل كانت ثمن دم مقابل تدخل موسكو لإنقاذ النظام. هذا الإنقاذ لم يكن مجانيا، بل استتبع تغيرا جذريا في تموضع تركيا الجيوسياسي من موقع متردد على هامش أوروبا، إلى لاعب متماسك داخل المدار الأوراسي. سقطت آخر الجسور مع بروكسل وواشنطن، وبدأت جسور جديدة تبنى مع موسكو وطهران وبكين.
الانقلاب الذي رأيته من شوارع إسطنبول، وسط دخان الدبابات وصراخ الجماهير، لم يكن كل شيء. كان ذلك المشهد السطحي، أما ما جرى في الخلفية – في دهاليز الاستخبارات، وفي لقاءات دوغين، وفي رسائل بوتين – فقد كان هو الانقلاب الحقيقي، والانقلاب المضاد. ما جرى في 15 تموز لم يكن فقط إخفاق مجموعة ضباط في السيطرة على السلطة، بل كان أيضا نجاحا تاما في إعادة تشكيل تركيا – من الداخل والخارج – على قواعد جديدة.
لم يكن انقلاب 15 تموز مجرد لحظة داخلية في التاريخ التركي، بل كان علامة فاصلة في تاريخ الإسلام السياسي الإقليمي. فالحركة التي مثلها حزب العدالة والتنمية، والتي كانت حتى ذلك الحين جزءا من التيار الديمقراطي–الإسلامي الصاعد، خرجت من تلك الليلة وقد تخلت عن كثير من أدواتها المدنية، واتجهت إلى بناء نموذج سلطة قاعدته الولاء، لا المشاركة.
سقطت منذ تلك اللحظة أوهام النموذج التركي الذي بشر به الكثيرون بعد 2011، وتحول أردوغان من ملهم للربيع العربي إلى أحد أبرز سداته. ومع انكشاف العلاقة مع موسكو، وظهور شخصيات مثل دوغين في خلفية المشهد، بدأت تتضح خيوط الانفصال التركي عن الغرب، ليس فقط سياسيا، بل رمزيا وثقافيا. تركيا ما بعد الانقلاب لم تعد تركيا التي كانت قبله.
باتت تحكم بمنطق الطوارئ الطويل، وتعيد هندسة المجال العام والمؤسسة العسكرية والإعلامية، وتبني خطابا قوميا–دينيا أكثر ضيقا، وأشد عداء للمعارضة الداخلية وللتحالفات الغربية. وبهذا المعنى، لم يجهَض انقلابٌ ضد الدولة فقط، بل تحقق انقلاب داخل الدولة – انقلاب ناعم، طويل النفس، صامت في البداية، لكنه أكثر فاعلية من أصوات الدبابات.










