في زمن التحولات الكبرى والانهيارات المتسارعة في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، خرج الشيخ ياسر الحبيب – أحد أكثر الأصوات الشيعية إثارة للجدل – ليكسر حاجز الصمت ويفتح النار على كل شيء: من المرشد الأعلى الإيراني إلى قيادات حزب الله، ومن استراتيجيات طهران في سوريا إلى ما يصفه بـ”غباء سياسي كارثي” يقود الطائفة الشيعية نحو الهاوية.
في سلسلة تصريحات نارية، حذر الحبيب من تداعيات سقوط سوريا على المشروع الشيعي، واعتبر ما يجري نكسة استراتيجية تفوق في خطورتها كل التهديدات العسكرية السابقة. لكن ما جعل تصريحاته تتجاوز مجرد الرأي، هو الهجوم الصريح الذي شنه على قادة الشيعة السياسيين والدينيين، متّهماً إياهم بالخيانة والتواطؤ، وداعياً إلى تشكيل قوة شيعية عابرة للحدود، لا تخضع لحسابات الدول ولا لسلطة المرجعيات التقليدية.
هذا التقرير يفتح ملف الشيخ ياسر الحبيب، لا بوصفه رجل دين مثيراً للجدل فحسب، بل كمؤشر على أزمة أعمق تضرب البنية الداخلية للطائفة الشيعية في زمن التراجع الإيراني وصعود المحاور المضادة.
يشهد الخطاب الشيعي المعاصر تطورات دراماتيكية في ظل التغيرات الجيوسياسية الأخيرة في المنطقة، حيث برز الشيخ ياسر الحبيب كأحد أبرز الأصوات النقدية التي تعبر عن حالة من القلق العميق إزاء مستقبل الطائفة الشيعية. من خلال تصريحاته الأخيرة وتحليلاته للوضع الإقليمي، يقدم الحبيب رؤية متشائمة للواقع الشيعي، مصحوبة بانتقادات لاذعة لقيادات دينية وسياسية مؤثرة، فضلاً عن توجيه اتهامات مباشرة لدول إقليمية بشأن دورها في تأجيج الصراعات الطائفية.
التشخيص القاتم للوضع الشيعي في المنطقة
تحليل سقوط سوريا وتداعياته الاستراتيجية
في تحليله الأخير للأوضاع الإقليمية، عبر الشيخ ياسر الحبيب عن حالة من الإحباط الشديد إزاء ما اعتبره “انهياراً استراتيجياً” للوجود الشيعي في سوريا. وفقاً لتصريحاته، فإن سقوط النظام السوري لم يكن مجرد تطور سياسي عادي، بل يمثل نكسة جوهرية للمشروع الشيعي الإقليمي الذي استثمرت فيه إيران وحلفاؤها موارد هائلة على مدى أكثر من عقد من الزمن.
يصف الحبيب الوضع بأن الشيعة واجهوا “عقدة تاريخية” من جانب خصومهم، الذين استغلوا الفرصة للانتقام من النفوذ الشيعي المتنامي في المنطقة. ويشير إلى أن هؤلاء الخصوم “لديهم عقدة من الشيعة، خصمهم التاريخي اللدود”، مؤكداً أن هذا العداء التاريخي يدفعهم للسعي “للفتك بنا عاجلاً أم آجلاً”.
الانتقادات الحادة للاستراتيجية العسكرية والسياسية
من أبرز النقاط في تحليل الحبيب هو انتقاده الشديد للطريقة التي تم بها التعامل مع الأزمة السورية من الجانب الشيعي. يشير إلى أن وجود ثلاثين ألف مقاتل شيعي في دمشق كان بإمكانه تغيير مجرى الأحداث، لكن القيادة اختارت سحبهم في اللحظة الحاسمة. يقول الحبيب: “ثلاثين ألف مسلح شيعي موجود بدمشق، يا ناس يا عالم، وين هالغباء هذا؟ ثلاثين ألف يعني جيش كامل”.
هذا التحليل يكشف عن رؤية الحبيب للأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها القيادات الشيعية، حيث يعتبر أن الانسحاب المبكر للقوات الشيعية من المواقع الحاسمة ساهم في تسهيل مهمة المعارضة المسلحة. ويؤكد أن هذا القرار جاء نتيجة “غباء سياسي” من جانب القيادات التي لم تدرك خطورة الموقف.
الهجوم على القيادات الدينية والسياسية
انتقاد سياسات المرشد الأعلى الإيراني
في تطور لافت، وجه الشيخ ياسر الحبيب انتقادات حادة لسياسات المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، متهماً إياه بدعم جماعات لا تخدم المصالح الشيعية الحقيقية. في خطبة عيد الأضحى لعام 1442 هجرية، هاجم الحبيب بشدة “سياسة نظام خامنئي الحاكم في إيران بدعم الحركة البكرية الإرهابية طالبان وإفساح المجال لها للاستيلاء على أفغانستان وتعريض الشيعة للويلات”.
هذا الانتقاد يكشف عن خلاف جوهري في الرؤية الاستراتيجية بين الحبيب والقيادة الإيرانية، حيث يعتبر أن دعم طالبان يتناقض مع المصالح الشيعية الأساسية. كما دعا الحبيب إلى “تشكيل قوة أمنية شيعية رافضية عابرة للحدود تتولى إنقاذ الأفغان والقضاء على العصابات الإرهابية”، مما يشير إلى رؤيته لضرورة اتخاذ إجراءات عسكرية مستقلة عن السياسات الإيرانية الرسمية.
المواجهة مع المؤسسة الدينية الشيعية التقليدية
لم تقتصر انتقادات الحبيب على القيادات السياسية، بل امتدت لتشمل شخصيات دينية مؤثرة في المذهب الشيعي. فقد واجه الحبيب معارضة قوية من علي الخامنئي، الذي “أصدر فتوى بتحريم الإساءة لعائشة عقب الاحتفال الذي أقامه ياسر الحبيب في ذكرى موتها”. كما انتقده حسن نصر الله، أمين عام حزب الله اللبناني، واصفاً احتفالات الحبيب بأنها جاءت من “شخص شيعي غير معروف عند الشيعة أساساً”.
هذه المعارضة من القيادات الشيعية التقليدية تعكس عمق الخلاف حول المنهج والأسلوب، حيث يتبنى الحبيب مقاربة أكثر تطرفاً وصدامية مقارنة بالخط المحافظ الذي تتبناه المرجعيات التقليدية. كما “استنكر على ذلك كمال الحيدري في العديد من بياناته ولقاءاته ومحاضراته عاداً منهج الحبيب وأسلوبه خروجاً عن منهج الشيعة”.
الاتهامات الموجهة للدول الإقليمية
دور قطر في دعم المعارضة السورية
يوجه الشيخ ياسر الحبيب اتهامات مباشرة لدولة قطر بشأن دورها في دعم المعارضة السورية المسلحة، معتبراً هذا الدعم جزءاً من مؤامرة أوسع لتقويض النفوذ الشيعي في المنطقة. تدعم هذه الاتهامات تقارير موثقة تشير إلى الدعم القطري الواسع للمعارضة السورية، حيث “انفقت نحو ثلاثة مليارات دولار في العامين الماضيين لدعم الانتفاضة في سوريا، وهو ما يفوق بكثير ما قدمته أي حكومة أخرى”.
وفقاً للتقارير الإعلامية، فإن الدعم القطري لم يقتصر على التمويل المالي، بل امتد ليشمل برامج تدريب عسكرية سرية. فقد كشفت مصادر أن “قطر تدرب سراً مقاتلين من المعارضة السورية المعتدلة بمساعدة الولايات المتحدة في قاعدة بالصحراء للقتال ضد قوات الرئيس بشار الأسد”. هذه البرامج شملت تدريب مجموعات صغيرة من “12 إلى 20 مقاتلاً” يخضعون للفحص من المخابرات المركزية الأمريكية قبل نقلهم إلى قطر للتدريب.
التهديدات المباشرة لدول الخليج
في تصعيد خطير للهجة، وجه الحبيب تهديدات مباشرة لدول الخليج، محذراً إياها من مواصلة دعم المعارضة السورية. في مقطع فيديو منتشر على الإنترنت، قال: “نحن أقوى لا تناهزوننا قوة ولا تجارونا في العتاد والرجال، فصيروا أوادب من صالحكم يا من تحركون بالريموت الكنترول من الكويت وقطر وما يسمى السعودية”.
كما هدد الحبيب بـ”انتفاضة شيعية كبرى لا تبقي ولا تذر” إذا استمرت دول الخليج في دعم ما وصفه بـ”إعادة الدولة الأموية من جديد في الشام”. وفي تهديد أكثر مباشرة، قال: “قولوا لهم بصريح العبارة ابتعدوا عن الشيعة وإلا هذه اليد التي تمتد لكي تمول وتمد من هم في سوريا سنقطعها. وأنا أدرك معنى كلمتي جيداً”.
التحليل الجيوسياسي وتداعيات المواقف
إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية
إن تصريحات الشيخ ياسر الحبيب وتحليلاته للوضع الإقليمي تعكس حالة من القلق العميق داخل بعض الأوساط الشيعية إزاء التطورات الجيوسياسية الأخيرة. فسقوط النظام السوري، الذي كان يُعتبر حليفاً استراتيجياً لإيران ومحور المقاومة، يمثل تحولاً جذرياً في التوازنات الإقليمية. هذا التطور “منح الولايات المتحدة فرصة استثنائية، للحد من احتمالات تجدد الصراع والعمل على ترسيخ الاستقرار الدائم في سوريا”.
من ناحية أخرى، فإن “النكسة الاستراتيجية التي تعرضت لها إيران” تفتح المجال أمام إعادة ترتيب التحالفات الإقليمية. حيث أن “تطور الأحداث السريعة وتراجع القدرات العسكرية والسياسية الإيرانية طوال العام الماضي، وكذا التصعيد العسكري المباشر وغير المباشر مع إسرائيل، ترك القيادة الإيرانية في وضع مرتبك وغير قادرة على تشكيل استراتيجية متماسكة للرد على الأحداث”.
تأثير المواقف على الوحدة الشيعية
تثير مواقف الحبيب النقدية تساؤلات مهمة حول مستقبل الوحدة الشيعية والتماسك المذهبي. فالانتقادات الحادة للمرجعيات التقليدية والقيادات السياسية تشير إلى وجود تيار شيعي بديل يتبنى مقاربة أكثر راديكالية وصدامية. هذا التيار لا يقتصر على نقد الأساليب والاستراتيجيات، بل يمتد ليشمل التشكيك في شرعية القيادات القائمة وفعاليتها في حماية المصالح الشيعية.
إن دعوة الحبيب لتشكيل “قوة أمنية شيعية رافضية عابرة للحدود” تعكس رؤية لتنظيم شيعي مستقل عن الهياكل الرسمية القائمة. هذه الرؤية قد تجد صدى لدى بعض الأوساط الشيعية المحبطة من الأداء الرسمي، لكنها تثير في الوقت نفسه مخاوف من تفتيت الوحدة المذهبية وخلق تنظيمات موازية تعمل خارج إطار المرجعيات التقليدية.
الآثار على الاستقرار الإقليمي
تصعيد التوترات الطائفية
إن الخطاب المتشدد الذي يتبناه الشيخ ياسر الحبيب والتهديدات المباشرة التي يوجهها لدول المنطقة قد تساهم في تصعيد التوترات الطائفية الإقليمية. فالدعوات للانتقام والمواجهة المباشرة مع دول الخليج تضع المنطقة أمام احتمالية اندلاع صراعات جديدة ذات طابع طائفي واضح.
هذا التصعيد يأتي في وقت تشهد فيه المنطقة تحولات جذرية، حيث “استقرار المنطقة يتطلب، على الأرجح، مشاركة إيران في المحادثات حول مستقبل سوريا”. لكن مواقف مثل تلك التي يتبناها الحبيب قد تعقد من إمكانيات التوصل إلى تسويات سياسية شاملة تضمن الاستقرار طويل المدى.
التحديات أمام السياسة الخارجية الإيرانية
تضع انتقادات الحبيب للسياسة الإيرانية القيادة في طهران أمام تحدٍ مزدوج. فمن جهة، عليها التعامل مع تداعيات خسارة سوريا والحاجة لإعادة صياغة استراتيجيتها الإقليمية. ومن جهة أخرى، تواجه انتقادات داخلية من أوساط شيعية تشكك في فعالية سياساتها وتطالب بمقاربات أكثر تشدداً.
هذا الوضع قد يدفع إيران للبحث عن توازن دقيق بين الحفاظ على نفوذها الإقليمي وتجنب الانجرار إلى مواجهات مفتوحة قد تكون كلفتها باهظة. كما أن الحاجة لإدارة التنوع في الآراء داخل الطيف الشيعي تتطلب مرونة سياسية وقدرة على احتواء الأصوات المعارضة دون المساس بالوحدة العامة للمحور.
الخلاصة
تعكس تصريحات ومواقف الشيخ ياسر الحبيب حالة من التململ والإحباط داخل بعض الأوساط الشيعية إزاء التطورات الإقليمية الأخيرة. فالانتقادات الحادة للقيادات التقليدية والتهديدات المباشرة للدول الإقليمية تشير إلى وجود تيار شيعي راديكالي يسعى لفرض أجندته الخاصة على المشهد السياسي والديني.
هذه المواقف تطرح تساؤلات مهمة حول مستقبل الوحدة الشيعية والاستقرار الإقليمي. فبينما تعبر عن إحباط حقيقي من بعض السياسات والاستراتيجيات، إلا أنها قد تساهم في تفاقم التوترات الطائفية وتعقيد الجهود الرامية لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة.
إن التحدي الأكبر أمام القيادات الشيعية التقليدية يكمن في قدرتها على استيعاب هذا التنوع في الآراء وإدارة الخلافات الداخلية دون المساس بالوحدة العامة للمذهب. كما أن الحاجة لإعادة تقييم الاستراتيجيات الإقليمية في ضوء التطورات الأخيرة تتطلب حكمة سياسية وقدرة على التكيف مع المعطيات الجديدة.
في النهاية، تبقى مواقف الحبيب وتحليلاته مؤشراً على حالة من التخبط والبحث عن اتجاه جديد داخل الطيف الشيعي، في وقت تواجه فيه المنطقة تحديات جسيمة تتطلب رؤية استراتيجية متماسكة وقدرة على بناء تحالفات مستدامة تضمن المصالح الحيوية لجميع الأطراف المعنية.










