في ظل أزمات اقتصادية متلاحقة وتحديات إقليمية متصاعدة، خرج وزير المالية المصري ليعلن عن تحقيق فائض أولي بنسبة 3.1% خلال الأشهر العشرة الأولى من العام المالي الجاري، في وقت فقدت فيه الدولة 110 مليارات جنيه من إيرادات قناة السويس، وتحملت الموازنة 150 مليار جنيه كمساندة إضافية لقطاع الطاقة.
ورغم ارتفاع الإيرادات الضريبية بنسبة 38%، يؤكد الوزير أن ذلك تحقق “دون فرض أعباء جديدة”، بينما يشير إلى انخفاض الدين الخارجي بقيمة ملياري دولار، واستحواذ القطاع الخاص على 60% من الاستثمارات خلال الفترة نفسها.

فائض أولي… ولكن بأي ثمن؟
يبدو للوهلة الأولى أن تحقيق فائض أولي بنسبة 3.1% هو إنجاز مالي يُحسب للحكومة، إلا أن هذا الرقم لا يمكن فصله عن سياقه الكلي. فبحسب البيانات الرسمية، جاء هذا الفائض في ظل خسائر جسيمة لإيرادات قناة السويس، التي تراجعت بنحو 110 مليارات جنيه نتيجة تداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة واضطرابات الملاحة البحرية، حيث سجلت القناة انخفاضًا بنسبة 43% في إيراداتها خلال عام 2024 وحده. هذا التراجع الحاد في أحد أهم مصادر العملة الصعبة يطرح تساؤلات جدية حول استدامة الفوائض المعلنة، خاصة مع استمرار التوترات الإقليمية التي لا تلوح لها نهاية قريبة.
ارتفاع الضرائب… من يدفع الثمن؟
أما الارتفاع الكبير في الإيرادات الضريبية بنسبة 38% خلال عشرة أشهر، والذي رفع الحصيلة إلى 1.71 تريليون جنيه، فيعود وفق بيانات وزارة المالية إلى توسع القاعدة الضريبية وتحسن الإدارة وليس إلى فرض أعباء جديدة. لكن الواقع يشير إلى أن هذا التحسن جاء مدفوعًا بتعافي النشاط الاقتصادي وحل أزمة النقد الأجنبي، وهي عوامل خارجية قد لا تصمد طويلاً أمام أزمات متجددة، خاصة مع تزايد معدلات التضخم وارتفاع الأسعار، فضلاً عن أن الضرائب تظل المصدر الأكبر للإيرادات الحكومية بنسبة 85% من إجمالي الإيرادات المتوقعة للعام المالي الجديد. فهل يستطيع المواطن تحمل المزيد من الضغوط الضريبية غير المباشرة وسط تآكل القدرة الشرائية؟

دعم الطاقة: عبء متجدد على الموازنة
تحمل الموازنة 150 مليار جنيه كمساندة إضافية لقطاع الطاقة يكشف عن استمرار معضلة الدعم الحكومي، التي طالما شكلت نزيفًا مزمنًا للمالية العامة. فبينما تعلن الحكومة عن برامج لإصلاح أسعار الوقود و”هيكلة” الدعم تدريجيًا، يبقى المواطن في مواجهة مباشرة مع موجات ارتفاع الأسعار، وسط وعود رسمية بعدم فرض زيادات مفاجئة. لكن تجارب السنوات الماضية أظهرت أن أي تحريك للأسعار ينعكس فورًا على تكاليف المعيشة، ما يضع الحكومة أمام معادلة صعبة بين ضبط المالية العامة وحماية الفئات الأكثر هشاشة.
الدين الخارجي والاستثمار الخاص: مؤشرات إيجابية أم تجميل للأرقام؟
يشير الوزير إلى انخفاض الدين الخارجي لأجهزة الموازنة بقيمة ملياري دولار خلال عشرة أشهر، وهو تطور إيجابي في ظاهره، لكنه لا يعكس الصورة الكاملة، إذ ما زالت فوائد الديون تلتهم أكثر من نصف المصروفات العامة، مع توقعات بارتفاعها إلى 2.3 تريليون جنيه في العام المالي المقبل. أما استحواذ القطاع الخاص على 60% من الاستثمارات، فيحتاج إلى تدقيق في نوعية هذه الاستثمارات ومدى انعكاسها على خلق فرص العمل وتحسين مستويات المعيشة، وليس فقط على تحقيق أرقام استثمارية في التقارير الرسمية.

ختام نقدي: أرقام واعدة أم مسكنات مؤقتة؟
في المحصلة، تبدو تصريحات وزير المالية المصري محاولة لإبراز نقاط القوة في الأداء المالي، لكنها تخفي خلفها تحديات هيكلية عميقة. فالفوائض الأولية والارتفاع الضريبي لا يمكن أن يغفلا عن خسائر قناة السويس، أو عن العبء المتزايد لدعم الطاقة وخدمة الدين، أو عن هشاشة الاقتصاد أمام الصدمات الإقليمية والعالمية. المطلوب اليوم ليس فقط تحسين الأرقام، بل بناء سياسات اقتصادية أكثر استدامة وعدالة، تضمن توزيع الأعباء والمكاسب بشكل متوازن بين الدولة والمجتمع.











