شكلت الهجمات الإسرائيلية الصادمة على طهران ومدن إيرانية أخرى في يونيو 2025 لحظة كاشفة لهشاشة بنية الأمن القومي الإيراني.
هذه العمليات التي استهدفت منشآت نووية وقادة بارزين في الحرس الثوري، بما فيهم اللواء حسين سلامي ومستشار المرشد الأعلى علي شمخاني، كشفت عن اختراق أمني غير مسبوق للنظام الإيراني.
فكيف تمكن الموساد من اختراق إيران بهذه السهولة المذهلة؟ وما هي نقاط الضعف الهيكلية في المنظومة الأمنية الإيرانية التي سمحت بذلك؟
أولاً: نقاط الضعف الأمنية الحرجة في النظام الإيراني
1. تعدد الأجهزة الاستخباراتية وتنافسها
تعاني إيران من تشتت استخباراتي خطير، حيث يتألف مجلس تنسيق الاستخبارات من 12 إلى 16 جهازاً منفصلاً ومتنافساً.
هذا التعدد يخلق تداخلاً وظيفياً وازدواجية في المهام، مما يعطل الفعالية ويزيد التوترات الداخلية، وبدلاً من التركيز على مواجهة التهديدات الخارجية، تنشغل هذه الأجهزة بمراقبة بعضها البعض في ظل ضعف الثقة بين الأطراف
2. غياب القيادة الموحدة والصراعات الداخلية
تعاني المنظومة الأمنية الإيرانية من غياب القيادة الموحدة بسبب الصراعات الداخلية بين أجهزة الحرس الثوري ووزارة الاستخبارات.
ورغم أن وزير الاستخبارات يقود مجلس التنسيق رسمياً، إلا أن المرشد الأعلى علي خامنئي يمارس تأثيراً مباشراً من خلال تعيينه لمعظم القادة الكبار، هذا التداخل في السلطات يؤدي إلى تضارب في القرارات وبطء في الاستجابة للتهديدات.
3. التركيز على المراقبة الداخلية على حساب الأمن الخارجي
تركز أجهزة الاستخبارات الإيرانية بشكل أساسي على مراقبة المواطنين العاديين والنشطاء السياسيين وشخصيات المعارضة.
هذا التركيز المفرط على الأمن الداخلي جاء على حساب الأمن الخارجي، مما جعل إيران أكثر عرضة للاختراقات الأجنبية، كما أظهرت حادثة اغتيال إسماعيل هنية في طهران، فإن هذا الفشل الاستخباراتي يعكس عجزاً كبيراً في حماية حتى الشخصيات المهمة التي تستضيفها إيران.
ثانياً: هيكلية الاستخبارات الإيرانية المعقدة
1. مجلس تنسيق الاستخبارات (ICC): جهاز متعدد الأوجه والمصالح
يتألف مجلس تنسيق الاستخبارات في إيران من عدد كبير من الأجهزة المنفصلة والمتنافسة، تتوزع بين وزارات وقوات مسلحة وشرطة.
ومن أبرز مهام هذا المجلس مناقشة كيفية متابعة وتفويض المهمات الاستخباراتية ضمن المهام القانونية لكل وحدة، وتنسيق القضايا المشتركة مع مجلس الأمن القومي، لكن في الواقع، يعاني هذا المجلس من تداخل الصلاحيات وتضارب المصالح بين أعضائه.
2. اللاعبون الرئيسيون في المشهد الاستخباراتي الإيراني
أ. وزارة الاستخبارات والأمن (MOIS)
تعد وزارة الاستخبارات والأمن الوطني (MOIS) جهاز المخابرات الرئيسي في إيران، وهي الأقوى من حيث الدعم المالي واللوجستي، تأسست عام 1983 وتتولى مهام جمع وتحليل وتصنيف المعلومات الضرورية داخل البلاد وخارجها، لكن نفوذها تراجع أمام تصاعد قوة الحرس الثوري في السنوات الأخيرة.
ب. منظمة استخبارات الحرس الثوري (IRGC-IO)
تتحكم استخبارات الحرس الثوري بملفات العمليات الخارجية والاغتيالات وتدريب الميليشيات، وتتنافس مباشرة مع وزارة الاستخبارات
وخضع جهاز استخبارات الحرس الثوري لإعادة هيكلة في السنوات الأخيرة، حيث تم توسيع نطاق عملياته في الخارج، خاصة تلك التي تركز على الولايات المتحدة، كما تم دمج مديرية الاستخبارات الاستراتيجية تحت مظلة هذا الجهاز.
ج. فيلق القدس
يعد فيلق القدس إحدى الوحدات الخمس التي تشكل الحرس الثوري الإيراني، ومهمته الأساسية الدفاع عن الثورة الإسلامية وإنشاء ورعاية التنظيمات المسلحة التابعة لإيران في الشرق الأوسط.
ويقدر عدد أفراده ما بين 5000 و15000 فرداً، تم اختيارهم بعناية من الحرس الثوري لكفاءتهم وولائهم للنظام، لعب فيلق القدس دوراً نشطاً في توفير التدريب والأسلحة للجماعات الإسلامية في المنطقة.
د. أجهزة أخرى
تشمل المنظومة الاستخباراتية الإيرانية أيضاً استخبارات الجيش الإيراني التقليدي (أرتيش J2)، ومركز التحقيق في الجرائم الإلكترونية (CDH)، وقيادة إنفاذ القانون (LEC)، وشرطة الإنترنت (FATA)، بالإضافة إلى جهاز استخبارات خاص بمكتب المرشد الأعلى.
ثالثاً: الظاهرة الأكثر غرابة – وحدات مكافحة التجسس المتعددة
الأمر الأكثر إثارة للدهشة في أجهزة الاستخبارات الإيرانية هو أن كل جهاز أمني يملك وحدة مستقلة لمكافحة التجسس، هذه الوحدات تشمل:
- منظمة مكافحة التجسس التابعة للحرس الثوري
- مكافحة التجسس في الجيش
- مكافحة التجسس في شرطة الإنترنت
- مكافحة التجسس في القضاء والداخلية
المفارقة أن مهمة هذه الوحدات الأساسية لم تعد مواجهة الأعداء الخارجيين، بل أصبحت مراقبة بعضها البعض داخلياً، في ظل ضعف الثقة بين الأطراف، هذا التركيز على المراقبة الداخلية المتبادلة أضعف قدرة إيران على كشف التهديدات الخارجية وردعها بصورة مسبقة.
رابعاً: كيف اخترق الموساد إيران؟
1. عمليات التخريب السرية والاختراق الأمني
نفذ الموساد سلسلة من عمليات التخريب السرية في عمق إيران، بالتزامن مع الضربات الجوية التي نفذها سلاح الجو الإسرائيلي.
وفقاً للمعلومات المتوفرة، بدأ الموساد قبل أشهر بتهريب صواريخ إلى إيران، ونصب سراً أسراباً من الطائرات المسيرة المتفجرة في عمق البلاد،كما أنشأ قاعدة للطائرات المسيرة داخل الأراضي الإيرانية، وهو ما يشير إلى اختراق أمني غير مسبوق.
2. تجنيد عملاء داخل المنظومة الأمنية الإيرانية
تمكن الموساد من توظيف عملاء أمن إيرانيين لتنفيذ عملياته، كما حدث في اغتيال إسماعيل هنية، وفقاً لصحيفة تليجراف، وظّف الموساد عملاء من وحدة حماية أنصار المهدي، وهي وحدة تابعة للحرس الثوري مسؤولة عن سلامة كبار المسؤولين، هذا يشير إلى اختراق عميق للمنظومة الأمنية الإيرانية، وصل إلى أعلى المستويات.
3. استغلال الصراعات الداخلية والتنافس بين الأجهزة
استغل الموساد الصراعات الداخلية والتنافس بين أجهزة الاستخبارات الإيرانية المختلفة، فالحرس الثوري يواجه هجوماً مضاداً عنيفاً من القوى التقليدية المنافسة، وهناك خلافات بين قادة الحرس أنفسهم حول عدد من المواضيع الخاصة بالسلطة وممارسة السياسة، هذه الانقسامات سهلت مهمة الموساد في اختراق المنظومة الأمنية الإيرانية.
خامساً: النتائج والتداعيات
1. فشل استباقي وعجز استخباراتي
كشفت الهجمات الإسرائيلية العنيفة أن الهيكل الأمني الإيراني ضخم من الخارج، لكنه هش من الداخل، فشلت أجهزة الاستخبارات الإيرانية في توقع الهجمات الإسرائيلية واتخاذ إجراءات وقائية لمنعها، مما يشير إلى عجز استخباراتي كبير،وصف مسؤول في الحرس الثوري الإسلامي اغتيال هنية بأنه “إذلال لإيران وخرق أمني هائل”.
2. تداعيات على مكانة إيران الإقليمية
أدت هذه الاختراقات الأمنية إلى إضعاف مكانة إيران لدى “محور الممانعة”، وزعزعة ثقة حلفائها في قدرتها على حمايتهم.
كما أظهرت هذه الأحداث التفوق العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي، والاختراق الأمني والعسكري الكبير للبنية الأمنية والاستخباراتية الإيرانية، وللقيادة السياسية في طهران.
3. ردود الفعل الإيرانية
في أعقاب هذه الاختراقات، بدأت إيران بمراجعة هيكلية أجهزتها الأمنية والاستخباراتية، وفقاً لمصادر إيرانية، هناك “لعبة لوم داخلي تسيطر على الحرس الثوري، حيث تتهم القطاعات المختلفة بعضها البعض بالفشل”، كما تم تشكيل مجموعة عمل للخروج بأفكار لتصوير الاغتيالات على أنها ليست خرقاً أمنياً.
ختاما تكشف الاختراقات الإسرائيلية المتكررة للأمن الإيراني عن خلل هيكلي عميق في المنظومة الاستخباراتية الإيرانية.
فرغم تعدد الأجهزة الأمنية وضخامة حجمها، إلا أن التنافس بينها وغياب التنسيق الفعال وتركيزها على المراقبة الداخلية على حساب الأمن الخارجي، جعلها عاجزة عن مواجهة التهديدات الخارجية.
هذا الفشل الاستخباراتي يضع علامات استفهام كبيرة حول مستقبل النظام الإيراني وقدرته على حماية أمنه القومي في مواجهة التحديات المتزايدة.










