في خطوة استراتيجية جديدة تعزز من نفوذها في منطقة القرن الأفريقي، أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة اليوم الثلاثاء 24 يونيو 2025 توقيع اتفاقية ضخمة بقيمة 3 مليارات دولار أمريكي لبناء خط سكة حديد يربط ميناء بربرة في أرض الصومال بالأراضي الإثيوبية. يأتي هذا المشروع الطموح كجزء من رؤية إماراتية شاملة لتطوير شبكة لوجستية متقدمة تهدف إلى السيطرة على طرق التجارة البحرية الاستراتيجية في البحر الأحمر وخليج عدن.
تفاصيل المشروع والاتفاقية الجديدة
تنص الاتفاقية الجديدة على إنشاء خط سكة حديد بطول يتراوح بين 310 و350 كيلومتر، يمتد من ميناء بربرة الاستراتيجي على ساحل البحر الأحمر وصولاً إلى الحدود الإثيوبية، مع إمكانية الربط بشبكة السكك الحديدية الإثيوبية الحالية عند نقطة عيشا المتصلة بخط أديس أبابا-جيبوتي. ويُتوقع أن يستغرق تنفيذ المشروع ما بين 5 إلى 7 سنوات، مع بدء التشغيل التجاري المتوقع بحلول عام 2032.
تشمل الاتفاقية مشاركة عدة كيانات إماراتية رئيسية، أبرزها:
- شركة موانئ دبي العالمية (DP World) التي تدير ميناء بربرة منذ عام 2016
- شركة قطار الاتحاد (Etihad Rail) المسؤولة عن تطوير شبكة السكك الحديدية الوطنية في الإمارات
- صندوق أبوظبي للتنمية المشارك في تمويل أجزاء من المشروع
السياق التاريخي للمشروع
المراحل التطويرية السابقة
لا يُعتبر هذا المشروع مفاجئاً، بل يأتي كتطوير طبيعي للاستثمارات الإماراتية المتراكمة في المنطقة منذ عقد من الزمن. ففي عام 2016، وقعت موانئ دبي العالمية اتفاقية امتياز لمدة 30 عاماً مع حكومة أرض الصومال لتطوير وإدارة ميناء بربرة باستثمار يبلغ 442 مليون دولار.
في عام 2018، انضمت إثيوبيا إلى هذا الاتفاق بحصة 19% من ملكية الميناء مقابل التزامها باستثمار 80 مليون دولار لتطوير الطرق الرابطة. وبحلول عام 2019، بلغت قيمة الاستثمارات الإماراتية في إثيوبيا وحدها 2.4 مليار دولار.
التطورات الأخيرة
في عام 2021، وقعت موانئ دبي العالمية مذكرة تفاهم جديدة مع الحكومة الإثيوبية لاستثمار مليار دولار إضافي لتطوير الممر اللوجستي بين بربرة وإثيوبيا، مما مهد الطريق للإعلان عن مشروع السكة الحديدية الجديد.
التحديات الجيوسياسية والتطورات الأخيرة
أزمة يناير 2024 والحل التركي
شهدت المنطقة تطورات سياسية معقدة أثرت على مسار هذا المشروع. في يناير 2024، وقعت إثيوبيا مذكرة تفاهم مع حكومة أرض الصومال تحصل بموجبها على حق الوصول إلى 20 كيلومتر مربع من السواحل حول ميناء بربرة لمدة 50 عاماً، مقابل أن تصبح أول دولة تعترف رسمياً بأرض الصومال.
أثار هذا الاتفاق أزمة دبلوماسية حادة مع الصومال ومصر، اللتين اعتبرتا الاتفاق انتهاكاً للسيادة الصومالية. لكن التطورات الأخيرة شهدت تحولاً مهماً، حيث نجحت تركيا في ديسمبر 2024 في التوسط لإبرام اتفاق تاريخي بين الصومال وإثيوبيا ينهي التوترات ويفتح الطريق أمام تطوير الممرات التجارية دون إثارة نزاعات إقليمية.
الأهمية الاستراتيجية لميناء بربرة
يحتل ميناء بربرة موقعاً استراتيجياً فريداً على الساحل الجنوبي للبحر الأحمر، على بُعد نحو 140 كيلومتر شرق مضيق باب المندب. يُعتبر الميناء أقرب المنافذ البحرية إلى الأسواق الإثيوبية، حيث يقع على بُعد 241 كيلومتر فقط من الحدود الإثيوبية مقارنة بـ696 كيلومتر للوصول إلى جيبوتي.
القدرات التشغيلية الحالية
بعد اكتمال المرحلة الأولى من التطوير عام 2021، أصبح الميناء قادراً على استيعاب 500 ألف حاوية سنوياً، مع خطط لرفع الطاقة إلى مليوني حاوية سنوياً بحلول اكتمال جميع مراحل التطوير. كما تم تطوير مطار بربرة والمنطقة الاقتصادية الحرة المجاورة للميناء، مما يجعله مركزاً لوجستياً متكاملاً.
التأثير على إثيوبيا والاقتصاد الإقليمي
تقليل الاعتماد على جيبوتي
بالنسبة لإثيوبيا، الدولة الحبيسة التي تضم أكثر من 126 مليون نسمة, يمثل هذا المشروع فرصة ذهبية لتنويع منافذها التجارية وتقليل الاعتماد المفرط على ميناء جيبوتي الذي يستحوذ حالياً على 95% من التجارة الإثيوبية. تدفع إثيوبيا حالياً نحو 1.5 مليار دولار سنوياً لجيبوتي مقابل استخدام موانئها ومرافقها اللوجستية.
الفوائد الاقتصادية المتوقعة
من المتوقع أن يسهم الممر الجديد في خفض تكاليف النقل والشحن للتجارة الإثيوبية بنسبة تتراوح بين 20-30%، خاصة للصادرات من المناطق الجنوبية والشرقية لإثيوبيا. كما سيفتح فرصاً جديدة لتطوير الصناعات التحويلية والتعدين في المناطق المحاذية لخط السكة الحديدية.
المنافسة الإقليمية وردود الفعل
تأثير على جيبوتي
يثير هذا المشروع مخاوف جيبوتي التي قد تفقد جزءاً مهماً من إيراداتها من النقل والترانزيت الإثيوبي. تحصل جيبوتي حالياً على عائدات سنوية تقدر بـ1.5 مليار دولار من الخدمات اللوجستية المقدمة لإثيوبيا، وقد عبرت عن قلقها من تأثير الممر الجديد على اقتصادها.
مخاوف مصر والسودان
تنظر مصر والسودان بقلق إلى تنامي النفوذ الإثيوبي في البحر الأحمر، خاصة في ظل التوترات المستمرة حول سد النهضة الإثيوبي الكبير. يرى محللون أن حصول إثيوبيا على منفذ مستقل على البحر الأحمر قد يعزز من موقفها التفاوضي في ملف المياه ويمنحها مرونة أكبر في مواجهة أي ضغوط اقتصادية محتملة.
البُعد الصيني والمنافسة الدولية
يأتي هذا المشروع في سياق منافسة جيوسياسية محتدمة في منطقة القرن الأفريقي بين القوى الإقليمية والدولية. تنشط الصين بقوة في المنطقة من خلال مشروع الحزام والطريق، حيث مولت بناء خط سكة حديد أديس أبابا-جيبوتي بقيمة 4.3 مليار دولار والذي دخل الخدمة عام 2018.
تسعى الإمارات من خلال هذا المشروع إلى موازنة النفوذ الصيني المتنامي وتعزيز حضورها كقوة إقليمية مؤثرة في أحد أهم الممرات التجارية العالمية. يرى خبراء أن المنافسة بين الممرين – الصيني عبر جيبوتي والإماراتي عبر بربرة – ستفيد إثيوبيا التي ستحصل على خيارات متنوعة وأسعار تنافسية للخدمات اللوجستية.
التحديات التقنية والبيئية
التحديات الجغرافية
يواجه المشروع تحديات تقنية معقدة، أبرزها الطبيعة الجبلية للتضاريس بين بربرة والحدود الإثيوبية، مما يتطلب إنشاء أنفاق وجسور عديدة. كما تتطلب المواصفات التقنية للخط توافقاً مع معايير السكك الحديدية الإثيوبية الحالية لضمان التكامل التشغيلي.
الاعتبارات البيئية
من الناحية البيئية، سيتطلب المشروع إجراء دراسات تأثير بيئي شاملة، خاصة أن الخط سيمر عبر مناطق حساسة بيئياً في إقليم أرض الصومال. كما ستحتاج الشركات المنفذة إلى التعامل مع التحديات المناخية للمنطقة، بما في ذلك درجات الحرارة المرتفعة والعواصف الرملية.
الآثار الاقتصادية المتوقعة
فرص العمل والنمو
تشير التقديرات الأولية إلى أن المشروع سيوفر آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة في كل من أرض الصومال وإثيوبيا. في أرض الصومال، من المتوقع أن يسهم المشروع في زيادة الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 15-20% على المدى المتوسط.
العوائد الإماراتية
بالنسبة للإمارات، يمثل المشروع استثماراً استراتيجياً طويل المدى يهدف إلى تعزيز مكانتها كمركز لوجستي عالمي. من المتوقع أن تحقق الشركات الإماراتية عوائد مجزية من تشغيل الخط وتقديم الخدمات اللوجستية المتكاملة، خاصة مع النمو المتوقع للاقتصاد الإثيوبي.
مقارنة مع المشاريع الإماراتية الأخرى
يأتي هذا المشروع ضمن سلسلة من الاستثمارات الإماراتية الضخمة في قطاع السكك الحديدية إقليمياً وعالمياً:
- الأردن (2024): اتفاقية بقيمة 2.3 مليار دولار لإنشاء شبكة سكك حديدية تربط ميناء العقبة بمناطق التعدين
- عُمان (2022): اتفاقية بقيمة 3 مليارات دولار لإنشاء خط سكة حديد يربط صحار بأبوظبي
- إثيوبيا-بربرة (2025): الاتفاقية الحالية بقيمة 3 مليارات دولار
هذه المشاريع تعكس استراتيجية إماراتية شاملة لبناء شبكة سكك حديدية إقليمية تجعل من الإمارات محوراً مركزياً للنقل والتجارة بين آسيا وأفريقيا وأوروبا.
النظرة المستقبلية والتوسعات المحتملة
ربط إقليمي أوسع
يُنظر إلى هذا المشروع كنواة لشبكة سكك حديدية أوسع في منطقة القرن الأفريقي. هناك خطط مستقبلية لربط الخط بشبكة السكك الحديدية في كينيا عبر مشروع لابسيت (LAPSSET) الذي يهدف إلى ربط ميناء لامو الكيني بإثيوبيا وجنوب السودان.
التوسع شمالاً
كما تدرس الجهات المعنية إمكانية مد الخط شمالاً للربط مع شبكة السكك الحديدية السودانية، مما يفتح الطريق أمام حركة بضائع وركاب مباشرة بين شرق أفريقيا ودول حوض النيل. هذه التوسعات المحتملة تعزز من القيمة الاستراتيجية طويلة المدى للاستثمار الإماراتي.
التأثير على التجارة العالمية
من المتوقع أن يسهم المشروع في تعزيز التجارة بين آسيا وأفريقيا، حيث سيوفر طريقاً أكثر كفاءة لنقل البضائع الآسيوية إلى الأسواق الأفريقية والعكس. خبراء التجارة الدولية يتوقعون أن يؤدي الممر الجديد إلى زيادة حجم التبادل التجاري بين القارتين بنسبة 25-30% خلال العقد القادم.
هذا التطور يأتي في وقت تسعى فيه الدول الأفريقية إلى تنويع شركائها التجاريين وتقليل الاعتماد على الطرق التقليدية التي تمر عبر أوروبا. الممر الجديد سيقدم بديلاً مباشراً وأكثر اقتصادية للتجارة الأفريقية-الآسيوية.
خلاصة التطورات
يمثل توقيع الإمارات لاتفاقية بناء سكة حديد بربرة-إثيوبيا بقيمة 3 مليارات دولار نقطة تحول مهمة في خريطة التجارة والنقل في منطقة القرن الأفريقي. المشروع لا يقتصر على كونه استثماراً اقتصادياً ضخماً، بل يمثل حجر الأساس لإعادة تشكيل التوازنات الجيوسياسية في واحدة من أهم المناطق الاستراتيجية في العالم.
النجاح في تنفيذ هذا المشروع سيعزز من مكانة الإمارات كقوة لوجستية عالمية، ويوفر لإثيوبيا البديل المنشود لتقليل اعتمادها على جيبوتي، ويمنح أرض الصومال فرصة ذهبية لتطوير اقتصادها وتعزيز موقعها الإقليمي. في الوقت نفسه، سيعيد المشروع تشكيل خريطة التجارة في البحر الأحمر ويفتح آفاقاً جديدة للتعاون الاقتصادي الأفريقي-الآسيوي.
مع بدء التنفيذ المتوقع خلال العام المقبل، تتطلع المنطقة إلى تحقيق نقلة نوعية في مجال النقل والخدمات اللوجستية، مما يعزز من فرص النمو الاقتصادي والتكامل الإقليمي في ظل تحديات جيوسياسية متزايدة وحاجة ملحة لتطوير البنية التحتية في القرن الأفريقي.










