شهد كهف جاسنة الواقع في منطقة سورداش شمال غربي مدينة السليمانية، يوم الجمعة 11 يوليو 2025، حدثًا تاريخيًا مهمًا تمثل في مراسم تسليم أول فصيل من مقاتلي حزب العمال الكردستاني أسلحتهم، في خطوة وُصفت بأنها بداية نهاية صراع دام أكثر من أربعة عقود مع الدولة التركية.
موقع ومعالم كهف جاسنة
يقع كهف جاسنة على بُعد 50 كيلومتراً شرق مدينة السليمانية على طريق السليمانية-دوكان الرئيسي، ضمن منطقة سورداش، خلف قرية “كاني خان” على سفح أحد الجبال الشاهقة. يتميز الكهف بطبيعته الخلابة وبوجود شلال يتجاوز ارتفاعه 3 أمتار، مما يجعله واحداً من أبرز المعالم السياحية في المنطقة.
يتصف الكهف بخصائص جيولوجية مميزة حيث تختلف ارتفاعاته وعرضه من مكان إلى آخر داخله، ويبلغ عمقه 35 متراً. يتميز مدخله بشكل مثلثي، كما يتأثر بوجود صدع كبير في سقفه فضلاً عن وجود الفواصل والشقوق، ويُلاحظ نزول قطرات الماء من سقف الكهف إذ أن الإذابة ما زالت نشطة وفعالة.
الأهمية التاريخية للكهف
يُعرف كهف جاسنة تاريخياً بكهف الشيخ محمود الحفيد البرزنجي، حيث لجأ إليه الزعيم الكردي الشيخ محمود الحفيد البرزنجي إبان قصف القوات البريطانية للسليمانية في عشرينيات القرن الماضي.
واتخذ الشيخ محمود من الكهف مقراً لأنشطته الإعلامية والسياسية، حيث نقل مطبعته على ظهور البغال وأسس فيها مطبعة وأصدر فيه “بانگی حەق” (صوت الحق) الجريدة الأولى لحكومته في 2 مارس 1923.

الشيخ محمود الحفيد البرزنجي (1878-1956) كان زعيماً سياسياً ووجيهاً عراقياً كردياً عاش في السليمانية ضمن أسرة لها نفوذ ديني صوفي وعشائري لدى أكراد العراق. قاد سلسلة من الانتفاضات الكردية ضد الانتداب البريطاني في العراق، وأعلن استقلال ولاية الموصل تحت قيادته في عام 1919، وأسس مملكة كردستان في السليمانية في عام 1919 التي استمرت حتى عام 1924.
مراسم تسليم السلاح في كهف جاسنة
اختار حزب العمال الكردستاني كهف جاسنة كمقر لمراسم تسليم السلاح لأسباب رمزية عميقة، حيث يحمل الكهف دلالات تاريخية مهمة في الذاكرة الكردية باعتباره رمزاً للمقاومة والنضال من أجل الحرية. وقد وصف المراقبون اختيار هذا المكان بأنه “يحمل رسائل رمزية قوية” ليس فقط من حيث المكان بل من حيث المضمون السياسي.
وفقاً للتقارير الإخبارية، قام 30 مقاتلاً من حزب العمال الكردستاني، بينهم أربعة قادة، بحرق أسلحتهم خلال المراسم التي أُقيمت في الكهف.

وأعلنت “مجموعة السلام والمجتمع الديمقراطي”، وهي أول فصيل من حزب العمال الكردستاني يلقي سلاحه، أنها دمّرت أسلحتها طوعاً خلال المراسم.
السياق السياسي للحدث
تأتي هذه المراسم استجابة لدعوة زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل عبد الله أوجلان، الذي أعلن في فبراير 2025 نهاية الكفاح المسلح ودعا إلى حل الحزب وتسليم السلاح. وقد أكد أوجلان في رسالة مصورة نادرة نُشرت في يوليو 2025، أن “الكفاح المسلح ضد تركيا انتهى” ودعا إلى انتقال كامل إلى السياسة الديمقراطية.

وقرر الحزب في 12 مايو 2025 حل نفسه رسمياً وإنهاء الكفاح المسلح، معلناً أن “الهيكل التنظيمي لحزب العمال الكردستاني” قد حُل وأن “الأنشطة التي نُفذت تحت اسم حزب العمال الكردستاني” قد أُنهيت رسمياً.
الآثار والتداعيات
تُعتبر هذه الخطوة نقطة تحول تاريخية في الصراع الكردي-التركي الذي استمر لأكثر من 40 عاماً وأسفر عن مقتل أكثر من 40 ألف شخص. وقد رحب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بهذه التطورات، مؤكداً أن تركيا لن تسمح بأي محاولة لتخريب عملية نزع السلاح.
من المتوقع أن تكتمل عملية نزع السلاح في غضون 3 إلى 5 أشهر، وفقاً لتصريحات المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا عمر جليك.
وتشرف على العملية آلية تضم مسؤولين من المخابرات التركية والقوات المسلحة بالتنسيق مع حكومتي بغداد وأربيل.

الأهمية الرمزية والثقافية
يُعد كهف جاسنة من أبرز المعالم الوطنية الكردية، حيث ارتبط بالمقاومة التاريخية ضد الاستعمار البريطاني في عشرينيات القرن الماضي. واليوم، يحتضن نفس الكهف مراسم السلام والانتقال من الكفاح المسلح إلى العمل السياسي السلمي، مما يضفي عليه دلالة رمزية خاصة في التاريخ الكردي المعاصر.
وقد أكد حكيم عبد الكريم، عضو المؤتمر الوطني الكردستاني والمشارك في المراسم، أن “الرسالة الأولى التي كان حزب العمال الكردستاني يود إيصالها للحكومة التركية وللمجتمع الدولي أنه هو أول المبادرين”، مشيراً إلى أن “رمزية المكان في جبل قنديل هو مكان شرارة انطلاق النار والصراع الذي امتد لأكثر من 40 عاماً، وهو ذات المكان الذي سيتم فيه تدمير هذه الأسلحة”.

التطلعات المستقبلية
تُعد هذه التطورات، وفقاً للمراقبين، مقدمة لمرحلة جديدة قد تُفضي إلى تسوية سلمية طويلة الأمد بين الأكراد والدولة التركية. ويأمل الأكراد في تركيا أن يمهد قرار الحزب الطريق أمام تسوية سياسية مع أنقرة، تفتح الباب أمام انفتاح جديد تجاه الأقلية الكردية التي تشكل نحو 20% من سكان تركيا البالغ عددهم 85 مليون نسمة.
إن اختيار كهف جاسنة كمقر لهذه المراسم التاريخية يُعيد إحياء الذاكرة الكردية ويربط بين النضال التاريخي والسعي الحالي للسلام، مما يجعل من هذا الكهف معلماً تاريخياً يحمل شاهداً على مرحلتين مهمتين في التاريخ الكردي: مرحلة الكفاح ضد الاستعمار البريطاني، ومرحلة الانتقال إلى السلام والعمل السياسي السلمي.










