يشهد ريف اللاذقية الشمالي منذ مطلع تموز/يوليو موجة حرائق غير مسبوقة أتت على ما يقدَّر بـ15 ألف هكتار من الغابات والبساتين، وأجبرت أكثر من 1 900 عائلة على النزوح نحو مدن الساحل أو إلى جبال الداخل.
وتعزو السلطات الانتقالية الأسباب إلى «الحر الشديد والرياح وجغرافيا المنطقة»، بينما ترى فصائل معارضة ومتشددة في مقدمتها تنظيم «سرايا أنصار السنة» أن الحرائق «جزء من عمل عسكري-ديني هادف لإرهاب النصيريين (العلويين)» كما جاء في بيان صدر في 6 تموز/يوليو.
وفي الأثناء تتداول مواقع محلية مقترحات بضمّ شريط الساحل الشمالي إلى محافظة إدلب لمنح «الدولة السُنّية» منفذاً على المتوسط، ما أثار مخاوف مجتمعية من سيناريو «تقسيم طائفي» يقصي المكوِّن العلوي عن موطنه التاريخي.
أبعاد الحرائق: خسائر بيئية وإنسانية
وفق تحديث مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (OCHA) بتاريخ 7 تموز/يوليو، تسببت النيران في تدمير قرى بيت الوالي وقسطل معاف وكسب، وقطعت طرقاً حيوية وأوقفت أربع محطات ضخ مياه تغذّي 25 بلدة ريفية.
كما أُغلِق معبر كسب الحدودي مع تركيا «لأسباب أمنية» بعدما اقتربت النيران من السياج الحدودي.
يؤكد وزير الطوارئ وإدارة الكوارث رائد الصالح أن «أكثر من 150 فريق إطفاء و16 مروحية من سوريا وتركيا والأردن ولبنان» تشارك في محاصرة ألسنة اللهب، لكن تضاريس الجبال ووجود ألغام من مخلفات الحرب يعرقلان الجهود.
ويقول نجاة رشدي، نائبة المبعوث الأممي إلى سوريا : «نحن أمام كارثة طبيعية متضخمة بعوامل بشرية وبيئية؛ أي تأخير في التنسيق الدولي يعني خسارة غطاء حراجي لن يُعوَّض لعقود» .
اتهامات متبادلة: حوادث عرضية أم «حرب تهجير»؟
رغم أن الخبراء البيئيين يشيرون إلى الجفاف ودرجات الحرارة القياسية في شرق المتوسط كعامل رئيس، تتصاعد روايات عن «حرق مُفتعَل» يستهدف سكان القرى العلوية.
وقد تبنّى تنظيم «سرايا أنصار السنة» إشعال بؤر حراجية في قسطل معاف، مبرِّراً الفعل بـ«إرغام الكفار على الرحيل» استناداً إلى فتوى لزعيمه «أبو الفتح الشامي».
في المقابل، يتهم ناشطون علويون الحكومة الانتقالية نفسها بـ«إهمال متعمد» بعد تقليص فرق الإطفاء المحلية ونقل قسم من سيارات الإطفاء إلى إدلب في إطار إعادة الهيكلة الإدارية، ما أضعف القدرة على احتواء الحرائق منذ بدايتها.
حركة نزوح جديدة
تشير بيانات إدارة الهجرة في طرطوس إلى استقبال نحو 9 300 نازح من قرى ريف اللاذقية خلال أسبوع واحد، بينما أقيمت مراكز إيواء موقتة في جبلة وطرطوس لاستيعاب الوافدين. يقول أبو خالد (52 عاماً) من قرية بيت عانا:
«لم يبق لدينا سوى الثياب على أجسادنا. لم تأتِ سيارة إطفاء واحدة حتى احترق البيت والزيتون. نشعر أن هناك من يريد دفعنا بعيداً عن الجبل».
جدل «المحافظة الساحلية» ومخاوف التقسيم
بالتوازي مع أزمة الحرائق، أعادت حسابات على منصة «إكس» طرح فكرة دمج مدن كسب وقسطل معاف ورأس البسيط إدارياً مع محافظة إدلب «لتحقيق توازن اقتصادي ومنفذ بحري» للمناطق ذات الغالبية السنية في الشمال الغربي.
ورغم أن المقترح لا يحمل صفة رسمية، فإنه أثار حساسية عالية لأن الساحل يُعد الخزان الديموغرافي والسياسي للطائفة العلوية منذ خمسينيات القرن الماضي.
يعتبر الباحث الجغرافي سامر الحافظ أن «أي إعادة ترسيم جغرافي دون تفاوض مجتمعي موسع ستُفهَم كخطوة تفكيكية، وتعيد فتح جروح الحرب حتى داخل المعسكر الموالي للحكومة الحالية».
موقف الحكومة الانتقالية
أكّد رئيس الحكومة أحمد الشرع في مؤتمر صحفي بدمشق أن «الساحل خط أحمر»، وأن الأجهزة القضائية «ستلاحق كل من يثبت تورطه في أعمال حرق متعمد أياً كانت انتماءاته».
وكشف عن لجنة تقصي حقائق مشتركة مع شركاء إقليميين «لتحييد الملف البيئي عن الصراعات الطائفية والسياسية».
تؤكد المعطيات الميدانية أن حرائق الساحل السوري كارثة بيئية حقيقية تستنزف ثروة حراجية نادرة، لكن توظيفها في سياقات طائفية وسياسية يزيد من خطورتها.
فلا مؤشرات رسمية حتى الآن على خطة حكومية لضمّ الساحل إلى إدلب، غير أن استمرار خطاب «المنافذ البحرية» واتهامات «التهجير» يهدد بتعميق الانقسامات.
إن تحويل ملف الحرائق إلى مساحة تعاون إقليمي ودولي عاجل هو الشرط الأول لقطع الطريق على أي سيناريو لإعادة رسم الخريطة بالسلاح أو بالنار.










