إنشاء “دولة كاليدونيا الجديدة”: اتفاق تاريخي يمنح الإقليم الفرنسي حكماً ذاتياً أوسع دون الاستقلال الكامل
فرنسا تتوصل إلى اتفاق مع القوى السياسية الكاليدونية لإنشاء كيان قانوني جديد يحمل اسم “دولة كاليدونيا الجديدة”
تُعتبر كاليدونيا الجديدة، الأرخبيل الواقع في المحيط الهادئ، على موعد مع تحول سياسي تاريخي بعد توقيع اتفاق غير مسبوق بين فرنسا والقوى السياسية المحلية يقضي بإنشاء “دولة كاليدونيا الجديدة” ضمن الإطار الفرنسي. هذا الاتفاق، الذي وُقع في 12 يوليو 2025، يمثل محاولة جديدة لحل الأزمة السياسية المستمرة منذ عقود بين أنصار الاستقلال والموالين لفرنسا.
خلفية الاتفاق التاريخي لإنشاء دولة كاليدونيا الجديدة
جاء هذا الاتفاق بعد عشرة أيام من المفاوضات المكثفة التي جرت في فندق ببوجيفال قرب باريس، حيث التقى ممثلو الحكومة الفرنسية مع 18 مندوباً من مختلف الفصائل السياسية الكاليدونية. وقد وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذا الاتفاق بأنه “تاريخي” وأنه يمثل “التزاماً بالثقة”.
يأتي هذا الاتفاق في أعقاب الأحداث الدامية التي شهدتها كاليدونيا الجديدة في مايو 2024، حيث اندلعت أعمال عنف واسعة النطاق أسفرت عن مقتل 14 شخصاً وخسائر اقتصادية تقدر بنحو 2 مليار يورو. كانت هذه الأحداث نتيجة لمعارضة السكان الأصليين “الكاناك” لمقترح فرنسي يهدف إلى توسيع حق التصويت ليشمل المقيمين طويلي الأمد من غير السكان الأصليين.
المحتوى الأساسي لاتفاق إنشاء دولة كاليدونيا الجديدة
ينص الاتفاق المكون من 13 صفحة على إنشاء “دولة كاليدونيا الجديدة” كوضع قانوني جديد “sui generis” (من نوعه الخاص) ضمن الجمهورية الفرنسية. وتتضمن البنود الرئيسية للاتفاق:
إنشاء الجنسية الكاليدونية الجديدة
سيحصل سكان كاليدونيا الجديدة على جنسية مزدوجة، فرنسية وكاليدونية، مما يمنحهم هوية محلية مميزة مع الحفاظ على علاقتهم بفرنسا. هذا التطور يُعد تنازلاً مهماً من جانب الحكومة الفرنسية لتهدئة المطالب المحلية بمزيد من الاستقلالية.
الاعتراف الدولي بدولة كاليدونيا الجديدة
يتيح الاتفاق للدول الأخرى إمكانية الاعتراف بـ“دولة كاليدونيا الجديدة”، مما يمنحها نوعاً من الوجود على الساحة الدولية دون الاستقلال الكامل. هذا الوضع الفريد يجعل من كاليدونيا الجديدة نموذجاً قانونياً جديداً في القانون الدستوري الفرنسي.
تحديد الاختصاصات في دولة كاليدونيا الجديدة
ستحتفظ فرنسا بأربعة اختصاصات أساسية: الدفاع، الأمن، النقد، والعدالة. غير أن الاتفاق يتيح إمكانية نقل هذه الاختصاصات تدريجياً إلى السلطات المحلية في المستقبل، شريطة موافقة ثلاثة أخماس الكونغرس الكاليدوني على ذلك.
الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية لكاليدونيا الجديدة
تكتسب كاليدونيا الجديدة أهمية استراتيجية كبيرة لفرنسا، خاصة في ظل احتوائها على ما يتراوح بين 20% و30% من احتياطيات النيكل العالمية. تُعتبر صناعة النيكل العمود الفقري لاقتصاد الأرخبيل، حيث تمثل 90% من صادراته و20% من الناتج المحلي الإجمالي.
أزمة صناعة النيكل في كاليدونيا الجديدة
تواجه صناعة النيكل في كاليدونيا الجديدة أزمة حادة منذ أكثر من عقد، حيث انخفضت أسعار النيكل بنسبة 45% في عام 2023. هذا الانخفاض أدى إلى إغلاق عدد من المصانع، بما في ذلك مصنع كونيامبو للنيكل الذي أوقف عملياته في أغسطس 2024.
يتضمن الاتفاق الجديد ميثاقاً للإصلاحات الاقتصادية والمالية يركز على إعادة إحياء صناعة النيكل من خلال خطة استراتيجية شاملة. هذا التركيز على النيكل يأتي في ظل الطلب المتزايد على هذا المعدن في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية والتحول نحو الطاقة المتجددة.
التحديات والانتقادات لإنشاء دولة كاليدونيا الجديدة
رغم الترحيب الرسمي بالاتفاق، فإنه يواجه انتقادات شديدة من قطاعات مختلفة في كاليدونيا الجديدة. يعتبر العديد من النشطاء المؤيدين للاستقلال أن الاتفاق لا يلبي طموحاتهم الكاملة في الحصول على الاستقلال.
معارضة من الجانبين لإنشاء دولة كاليدونيا الجديدة
من جهة أخرى، يعارض بعض الموالين لفرنسا الاتفاق، حيث يرى النائب فيليب بليز، نائب الرئيس الأول لحكومة المقاطعة الجنوبية، أن النص “تجاوز خطاً أحمر” من خلال الاعتراف بـ“دولة كاليدونية جديدة” و”جنسية مميزة”.
كما أعرب حزب التجمع الوطني الفرنسي عن تحفظاته، حيث صرح النائب جان فيليب تانغي بأن الحزب قد لا يصوت لصالح تعديل الدستور المطلوب لتنفيذ الاتفاق.
التاريخ الطويل للصراع في كاليدونيا الجديدة
تمتد جذور الصراع في كاليدونيا الجديدة إلى الفترة الاستعمارية، حيث استعمرت فرنسا الأرخبيل في عام 1853. منذ ذلك الحين، شهدت المنطقة عدة انتفاضات، بدءاً من ثورة الزعيم أتاي عام 1878، مروراً بانتفاضة عام 1917، وصولاً إلى الاضطرابات الحديثة في الثمانينيات.
الاستفتاءات السابقة على استقلال كاليدونيا الجديدة
أُجريت ثلاثة استفتاءات على الاستقلال في كاليدونيا الجديدة بين عامي 2018 و2021، وفقاً لاتفاق نوميا لعام 1998. رفض الناخبون الاستقلال في جميع الاستفتاءات الثلاثة، وإن كانت النسب المعارضة تتناقص تدريجياً من 56.4% في 2018 إلى 53.3% في 2020.
الاستفتاء الأخير في ديسمبر 2021 شهد مقاطعة واسعة من قبل أنصار الاستقلال احتجاجاً على رفض الحكومة الفرنسية تأجيل التصويت بسبب جائحة كوفيد-19، مما أدى إلى رفض الاستقلال بنسبة 96.5%.
الخطوات المقبلة لإنشاء دولة كاليدونيا الجديدة
يتطلب تنفيذ الاتفاق موافقة البرلمان الفرنسي على التعديل الدستوري المطلوب، متبوعاً بإجراء استفتاء في كاليدونيا الجديدة المزمع إجراؤه في فبراير 2026. هذا الاستفتاء سيكون بمثابة الاختبار النهائي لقبول الاتفاق من قبل السكان المحليين.
التحديات المستقبلية لدولة كاليدونيا الجديدة
تواجه كاليدونيا الجديدة تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة، بما في ذلك ضرورة تنويع الاقتصاد بعيداً عن الاعتماد المفرط على النيكل. كما تحتاج إلى معالجة الانقسامات العرقية والاجتماعية التي تعمقت على مدى عقود من الصراع السياسي.
الأبعاد الجيوسياسية لإنشاء دولة كاليدونيا الجديدة
يأتي هذا الاتفاق في سياق جيوسياسي معقد في منطقة المحيط الهادئ، حيث تسعى فرنسا للحفاظ على نفوذها في مواجهة النفوذ الصيني المتنامي. كاليدونيا الجديدة تُعتبر نقطة استراتيجية مهمة لفرنسا في إستراتيجيتها للهند والمحيط الهادئ.
إن إنشاء “دولة كاليدونيا الجديدة” يمثل محاولة مبتكرة لحل صراع طويل الأمد من خلال إيجاد توازن بين مطالب الاستقلال الكاناكية والمصالح الفرنسية الاستراتيجية. نجاح هذا النموذج قد يصبح مثالاً يُحتذى به في حل النزاعات الاستعمارية الأخرى، بينما فشله قد يؤدي إلى تجدد الاضطرابات في هذا الأرخبيل الاستراتيجي.










