لماذا تعثر مشروع نيوم السعودي: من رؤية المستقبل إلى كابوس لمحمد بن سلمان
تحول مشروع نيوم السعودي من رمز طموح رؤية 2030 إلى قصة تحذيرية عن المخاطر المحيطة بالمشاريع الضخمة غير المدروسة. بعد أكثر من سبع سنوات من الإعلان عنه وإنفاق أكثر من 50 مليار دولار، يواجه المشروع أزمات متعددة الأبعاد تهدد بتحويله من حلم مستقبلي إلى كابوس اقتصادي وإنساني.
انفجار التكاليف إلى مستويات فلكية
كشفت تقارير داخلية حصلت عليها صحيفة وول ستريت جورنال أن تكلفة مشروع نيوم ارتفعت من 500 مليار دولار إلى 8.8 تريليون دولار بحلول عام 2080، أي ما يعادل أكثر من 25 ضعف الميزانية السنوية للمملكة. هذا الرقم الصادم يعكس فشلاً ذريعاً في التخطيط المالي والتقدير الواقعي للتكاليف.
المرحلة الأولى فقط من المشروع، المقرر انتهاؤها بحلول 2035، ستكلف 370 مليار دولار – قريباً من التكلفة الأصلية المقدرة للمشروع بأكمله. هذا التضخم الهائل أجبر السعودية على تقليص طموحاتها بشكل جذري، حيث تراجع مشروع “ذا لاين” من 170 كيلومتراً إلى 2.4 كيلومتر فقط.
التلاعب المالي وإخفاء الحقائق
أظهرت تقارير التدقيق الداخلي أدلة على التلاعب المتعمد بالبيانات المالية من قبل مسؤولي المشروع، بمساعدة شركة الاستشارات العالمية ماكينزي التي تحصل على 130 مليون دولار سنوياً. شمل التلاعب رفع أسعار الخدمات بشكل خيالي، حيث ارتفع سعر فندق بوتيك من 489 دولار إلى 1866 دولار لليلة الواحدة، وقفزت أسعار التخييم الفاخر من 216 إلى 794 دولار.
حذر المسؤولون المستشارين من “عدم ذكر التكاليف بشكل استباقي” في الاجتماعات مع القيادة، كما تم إقالة مسؤولين حاولوا الاعتراض على تقديرات التكاليف المضللة. هذا النهج في إخفاء الحقائق عن ولي العهد أدى إلى تفاقم المشاكل وزيادة الهوة بين التوقعات والواقع.
أزمة إدارية وموجة استقالات واسعة
شهد المشروع موجة استقالات كبيرة طالت مختلف المستويات الإدارية، بدءاً من استقالة المدير التنفيذي نظمي النصر في نوفمبر 2024 وتعيين أيمن المديفر بدلاً منه. فقد المشروع العشرات من المديرين التنفيذيين الوافدين من قوة عاملة تضم 1500 موظف بسبب ظروف العمل الصعبة والضغوط الهائلة.
تم تسريح 35% من عمال البناء منذ أبريل 2025، ونقل أكثر من 1000 موظف من موقع نيوم إلى الرياض مع فقدان مزايا السكن والبدلات. كما فُرض تجميد شامل على التوظيف لجميع الوظائف الدائمة، مع الاكتفاء بالأدوار التعاقدية الضرورية فقط.
المقاومة الشعبية والتكلفة الإنسانية الباهظة
واجه المشروع مقاومة شرسة من قبيلة الحويطات التي رفضت التهجير القسري من أراضيها التاريخية. بلغت هذه المقاومة ذروتها الدموية بـمقتل عبد الرحيم الحويطي في أبريل 2020 على يد قوات الأمن السعودية بعد رفضه ترك منزله. قبل مقتله، توقع الحويطي تصفيته قائلاً: “أتوقع أن تقتلني الشرطة في بيتي وتتهمني بأني إرهابي”.
كشف ضابط استخبارات سعودي سابق أن السلطات أذنت باستخدام “القوة المميتة” لإخلاء الأراضي لصالح المشروع. يتطلب نيوم تهجير 20 ألف شخص من أراضيهم، مع تعويضات وصفها السكان بـ“الغامضة وغير الكافية”. تم اعتقال أكثر من 150 فرداً من قبيلة الحويطات، وصدرت أحكام بالسجن لـ50 عاماً ضد معارضي التهجير.
التحديات الهندسية المستحيلة
أثبتت الطموحات الهندسية لمشروع نيوم أنها غير قابلة للتحقيق عملياً. ناطحات السحاب المتوازية بارتفاع 500 متر وطول 170 كيلومتر في الصحراء تواجه تحديات فنية هائلة. رغم اقتراحات بتقليل الارتفاع إلى 1000 قدم لتوفير التكاليف، رفض ولي العهد هذا الاقتراح بشكل قاطع.
المشاكل الهندسية تشمل صعوبات حفر الجبال بارتفاع 800 متر لإقامة المرافق، إضافة إلى مشاكل نقص العمالة والبنية التحتية وإمدادات الطاقة. البيئة الصحراوية القاسية مع العواصف الرملية والغبار والحرارة الشديدة تتطلب صيانة مستمرة ومكلفة.
فشل في جذب الاستثمارات الأجنبية
فشل المشروع فشلاً ذريعاً في جذب الاستثمارات الأجنبية المطلوبة. بلغت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في السعودية 26 مليار دولار فقط في 2023، بعيداً جداً عن الهدف الرسمي البالغ 100 مليار دولار سنوياً بحلول 2030. هذا العجز يضع عبئاً إضافياً على الخزينة السعودية المثقلة بالأعباء.
تأخر المشروع المشترك بقيمة 10 مليارات دولار مع شركة الشحن الدنماركية DSV بسبب عدم الحصول على الموافقات التنظيمية. الشركة الدنماركية خفضت توقعاتها من 2.45 مليار إلى مليار دولار فقط، مما يعكس تراجع الثقة الدولية في المشروع.
انتهاكات حقوق الإنسان والعمال
وثقت منظمات حقوق الإنسان انتهاكات واسعة لحقوق العمال الوافدين في نيوم. كشف فيلم وثائقي أن 21 ألف عامل أجنبي من الهند وبنجلاديش ونيبال لقوا حتفهم منذ إطلاق رؤية 2030. العمال يواجهون ظروف عمل قاسية، وسرقة أجور متفشية، وقيود على الحركة، ونقص في التدابير الوقائية ضد الحر الشديد.
مالكوم آو، الرئيس التنفيذي لشركة Solar Water، سحب عقداً بقيمة 100 مليون دولار مع نيوم بسبب انتهاكات حقوق الإنسان. العديد من الشركات العالمية تواجه ضغوطاً متزايدة للانسحاب من المشروع بسبب المخاوف الأخلاقية.
الأزمة المالية وضغوط النفط
تواجه السعودية أزمة مالية حادة تؤثر على تمويل المشروع. تحتاج المملكة إلى سعر نفط 96 دولار للبرميل لتحقيق التوازن في الميزانية، يرتفع إلى 113 دولار مع احتساب إنفاق صندوق الاستثمارات العامة. مع تداول النفط عند 71 دولار للبرميل، تواجه المملكة عجزاً مالياً متزايداً.
ارتفع صافي الدين الوطني السعودي بـ30 مليار دولار في الربع الأول من 2025 – أعلى زيادة ربعية على الإطلاق. هذا الوضع أجبر الحكومة على إعادة ترتيب أولوياتها وتأجيل أو إلغاء بعض المشاريع العملاقة.
تقليص جذري للطموحات
أطلق الرئيس التنفيذي الجديد أيمن المديفر مراجعة شاملة لنطاق وأولوية المشاريع. هذه المراجعة تهدف إلى إعادة ضبط الإنفاق وتحديد الأولويات القابلة للتحقيق. تراجعت توقعات سكان نيوم من 1.5 مليون إلى أقل من 300 ألف نسمة بحلول 2030.
المرحلة الأولى من “ذا لاين” تقلصت إلى نصف ميل فقط، ومن المتوقع افتتاحها عام 2034 بدلاً من 2030. مشروع “سندالة” السياحي لا يزال متوقفاً بسبب مشاكل في التصميم رغم إنفاق 45 مليون دولار على حفل الافتتاح.
دروس من فشل مشروع نيوم
يمثل تعثر مشروع نيوم دراسة حالة في المخاطر المحيطة بالمشاريع الضخمة المدفوعة بالطموح السياسي دون دراسات جدوى واقعية. المشروع فشل في التخطيط السليم والشفافية المالية ومراعاة البعد الإنساني، مما أدى إلى كارثة اقتصادية وإنسانية.
الدروس المستفادة تؤكد أهمية الواقعية في التخطيط، والشفافية في الإدارة المالية، واحترام حقوق الإنسان والمجتمعات المحلية في مشاريع التنمية الكبرى. مشروع نيوم يقف اليوم كتحذير من عواقب الغرور والطموح غير المحسوب في إدارة المشاريع العملاقة.










