هاني بشر
تصاب المهن بالأمراض كما يصاب الأفراد، وتحتاج بين الفينة والأخرى إلى من يطبب جراحها ويواسيها في مصائبها. والصحافة المصرية ليست استثناء من هذا، حتى أتاها الفتى القادم من الصعيد محمد أبو الغيط، تاركا مهنة الطب في المستشفى ليمارس طبا وتطبيبا من نوع آخر في غرف الأخبار ما بين الصحف وقنوات التلفزيون بين القاهرة ولندن.
ليست قصة الزميل والصديق الراحل محمد تدور على التميز المهني، فهناك كثيرون أحرزوا التميز ذاته، وليست في إجماع الناس من كافة التوجهات على محبته فهي غاية لا تدرك وإنما نتيجة خصوصية أنعم الله بها عليه، فدخوله لعالم الصحافة كان مفاجئا بمقاله “الفقراء أولا يا أولاد الكلب”، وخروجه من الحياة كان مفاجئا أيضا بإصابته بالسرطان في شبابه، وبينهما مر طيف الراحل الكريم بردا وسلاما على كل ما مر به من مؤسسات وأشخاص.
ليست قصة الزميل والصديق الراحل محمد تدور على التميز المهني، فهناك كثيرون أحرزوا التميز ذاته، وليست في إجماع الناس من كافة التوجهات على محبته فهي غاية لا تدرك وإنما نتيجة خصوصية أنعم الله بها عليه، فدخوله لعالم الصحافة كان مفاجئا بمقاله “الفقراء أولا يا أولاد الكلب”، وخروجه من الحياة كان مفاجئا أيضا بإصابته بالسرطان في شبابه
عرفته لأول مرة عام 2015 حين جاء إلى لندن ليعمل منتجا لبرنامج بتوقيت مصر الذي قدمته لمدة عام. كان عيني التي أرى بها مصر، فما كتبه في مقالاته غيض من فيض وبعض مما يعرف عن أحوال البلاد والعباد، بسبب تشعب علاقته هناك خاصة في الوسط الصحفي الذي يكن له العاملون فيه احتراما كبيرا لموهبته الفذة، رغم صغر سنه وترفعه عن المعارك التي حكمت المشاهد السياسي والصحفي منذ عام 2011 وحتى وفاته.
كان مهتما على الصعيد الشخصي والمهني بقضايا المعتقلين وربما لم يظهر هذا الأمر في أعماله الصحفية، بقدر ما كان على صعيد اهتمامه الشخصي وهو أمر يعرفه كل من اقترب منه. فعلى سبيل المثال، هو الذي أتى لي بالخبر اليقين عن والدي حين أصيب بوعكة صحية في سجن العقرب وأُجريت له عملية جراحية عام 2015. لم ندر ونحن أسرته أين هو وما العملية التي أجراها رغم محاولات المحامين وسؤال بقية أهالي المعتقلين، حتى جاء لي اتصال من محمد أبو الغيط يقول لي صحة والدك الحمد لله في تحسن، واتصل على هذا الرقم لأن هناك من رآه في عنبر المعتقلين في القصر العيني الفرنساوي.
كنا على تواصل دائم ونتابع معا أخبار منع وفتح الزيارات وأحوال المعتقلين؛ لأن حماه الدكتور السيد شهاب، عميد كلية الهندسة بجامعة حلوان سابقا فك الله سجنه، معتقل وكانت والدتي ترافق حماته رحمها الله في الزيارات التي كانت تتم من خلف حاجز زجاجي، وانتظار لساعات طويلة من قبل الفجر أمام السجن قبل أن تغلق الزيارات نهائيا أمام الأهالي عام 2018. وزاد من وطأة الألم عليه وعلى زوجته الصابرة إسراء أن أصيبت حماته بالمرض الخبيث السرطان، وتوفيت قبل أن تبتلى زوجته بإصابة محمد رحمه الله بالسرطان أيضا.
سيرة محمد أبو الغيط هي سيرة روح التحرير 2011؛ التي أسرت الكثيرين ببراءتها وطهرها وعفويتها، هي الحلم الشخصي والعام الذي كان ولا يزال يحلم به الشباب العربي.. أحلام بسيطة في علاقة مهنية وشخصية متصالحة مع الذات والعالم
وكانت متابعته لهذا الملف لا تنفصل عن اهتمامه بالشأن الإنساني الذي أعلاه على الشأن السياسي والاقتصادي والعسكري في التحقيقات المتميزة التي قام بها وحاز بها على جوائز دولية عديدة، فكان يمتلك ناصية الكتابة في قضايا الألم الكبرى والمعارك الضارية بروح شفافة بريئة؛ لا يفرق بين كتاباته أثناء محنة مرضه وقضايا التسليح والفساد المالي والإصلاح السياسي. ولم أكن وحدي الذي يمثل له بيت محمد في لندن مأوى دافئا في الغربة، ما إن تدخله وكأنك دخلت إلى بيتك في وطنك؛ ترحاب وكرم ونقاش عميق وروح مرحة.
يمكن أن نقول بكل ثقة إن سيرة محمد أبو الغيط هي سيرة روح التحرير 2011؛ التي أسرت الكثيرين ببراءتها وطهرها وعفويتها، هي الحلم الشخصي والعام الذي كان ولا يزال يحلم به الشباب العربي.. أحلام بسيطة في علاقة مهنية وشخصية متصالحة مع الذات والعالم؛ ترفّع عن الصغائر والمعارك الجانبية وإنسانية راقية.
في زمان غير الزمان ومكان غير المكان، كان من المفترض أن يعود جثمان محمد الطاهر من لندن ليدفن في وطنه مصر؛ الذي شرفه في كل محفل. ووقتها لا نبالغ إذا قلنا إن جنازته لن تقل في حضورها عن جنازة المطرب عبد الحليم حافظ حين عاد في كفنه من لندن، فكلاهما مسا شغاف قلوب المصريين وأحدث موتهما جرحا غائرا.. وعلى مثل محمد فلتبكِ البواكي، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
( عربي 21 )