في تطور مهم على الساحة السياسية الإقليمية، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لأول مرة في التاريخ، اعترافه بـ”الإبادة الجماعية” للأرمن التي وقعت على يد الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، وهو ما أثار عاصفة من الانتقادات التركية الشديدة.
تفاصيل تصريحات نتنياهو
جاء اعتراف نتنياهو خلال مقابله عبر بودكاست أمريكي يقدمه باتريك بيت ديفيد يوم الثلاثاء 27 أغسطس 2025. وعندما سُئل عن سبب عدم اعتراف إسرائيل بالإبادة الأرمنية، أجاب: “في الواقع، أعتقد أننا اعترفنا، أعتقد أن الكنيست أقرّ قانوناً في هذا الشأن”.
وعندما أوضح المقدم أن الاعتراف لم يصدر عن رئيس وزراء إسرائيلي سابقاً، أجاب نتنياهو: “نعم، لقد فعلت ذلك للتو”. وبهذا يصبح نتنياهو أول رئيس وزراء إسرائيلي يعترف علناً بالإبادة الجماعية للأرمن.
الرد التركي القاسي
رفض رسمي وإدانة شديدة
استنكرت وزارة الخارجية التركية بشدة تصريحات نتنياهو، واصفة إياها بأنها “محاولة سياسية لاستغلال مآسي التاريخ”. وأضافت الوزارة أن نتنياهو “يحاول التغطية على الجرائم التي ترتكبها حكومته” من خلال الإشارة إلى أحداث عام 1915.
وأكدت الخارجية التركية أن تصريحات نتنياهو “تتنافى مع الحقائق التاريخية والقانونية”، مشيرة إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي مطلوب لدوره في “الإبادة الجماعية” المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني.
انتقادات شخصية من المسؤولين الأتراك
وصف برهان الدين دوران، رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية، تصريحات نتنياهو بأنها “نفاق صارخ يستغل التاريخ والقانون”. وقال: “في الوقت الذي يتعرض فيه آلاف الأبرياء في غزة لإبادة جماعية ممنهجة، فإن تصريحات نتنياهو تعد نفاقاً صارخاً”.
وأضاف دوران: “لا قيمة إطلاقاً لصدور حكم يتعلق بالتاريخ من شخص ارتكب مثل هذه الجرائم”، مؤكداً أن تركيا ستواصل جهودها لضمان أن ينال نتنياهو وحكومته “أشد العقوبات في المحاكم الدولية”.
السياق التاريخي والسياسي
الموقف الإسرائيلي السابق
امتنعت إسرائيل لعقود طويلة عن الاعتراف بالإبادة الأرمنية خشية توتر العلاقات مع تركيا. وكان البرلمان الإسرائيلي قد ألغى تصويتاً على قرار للاعتراف بالإبادة الأرمنية في عام 2018، بعد معارضة من حكومة نتنياهو.
في عام 2001، رفض وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك شمعون بيريز بشكل قاطع الادعاءات الأرمنية، واصفاً إياها بمحاولة لمقارنة ما حدث بالهولوكوست. وقال بيريز: “لم يشهد العالم شيئاً مشابهاً للهولوكوست. ما عاشه الأرمن كارثة، لكنها ليست إبادة جماعية”.
أحداث 1915 والإبادة الأرمنية
تشير الإبادة الجماعية للأرمن إلى القتل الجماعي للشعب المسيحي الأرمني في الإمبراطورية العثمانية من ربيع 1915 إلى خريف 1916. مات ما لا يقل عن 664,000 وربما ما يصل إلى 1.2 مليون أرمني خلال هذه الفترة.
بدأت الأحداث في 24 أبريل 1915 عندما أمر طلعت باشا باعتقال ما يقرب من 250 من المفكرين والمثقفين والسياسيين الأرمن في إسطنبول. وقد قُتل معظم الرجال الذين تم اعتقالهم في الأشهر التالية.
ردود الفعل الأرمنية والدولية
الموقف الأرمني المختلط
أشار آرا تاريفوسيان، مدير شركة Mediamax الإعلامية الأرمينية، إلى أن تصريحات نتنياهو لا تشكل قراراً رسمياً، مضيفاً أن إسرائيل تطرح قضية “إبادة الأرمن” كلما توترت العلاقات مع تركيا.
كما انتقد آرام هامباريان، المدير التنفيذي للجنة الوطنية الأرمنية الأمريكية، تصريح نتنياهو، معتبراً أن الاعتراف سيكون ذا مصداقية حقيقية إذا ترافق مع إلغاء التحالف العسكري مع أذربيجان. وأضاف أن مثل هذا التصريح “ليس سوى مناورة تكتيكية تهدف إلى التغطية على انتهاكات إسرائيل نفسها”.
الاعتراف الدولي بالإبادة الأرمنية
اعترفت 34 دولة حول العالم بالإبادة الجماعية للأرمن حتى الآن، بما في ذلك الولايات المتحدة التي اعترفت رسمياً في عام 2021 تحت إدارة الرئيس جو بايدن. ومن البلدان العربية، لا تعترف بالإبادة سوى سوريا ولبنان.
التداعيات على العلاقات التركية-الإسرائيلية
تصاعد التوتر منذ حرب غزة
تأتي تصريحات نتنياهو في ظل تدهور العلاقات التركية-الإسرائيلية بشكل كبير منذ بداية الحرب على غزة في أكتوبر 2023. وقد قطعت تركيا التعامل التجاري مع إسرائيل في مايو 2024.
وكان وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس قد وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في يناير 2024 بـ”رئيس الدولة التي ارتكبت الإبادة الجماعية بحق الأرمن”.
التنافس الإقليمي في سوريا
يُعتبر التنافس على النفوذ في سوريا أحد أهم مسببات التوتر بين البلدين. فبعد سقوط نظام بشار الأسد، توسع النفوذ التركي في سوريا بينما تسعى إسرائيل لمنع تأسيس قواعد عسكرية تركية قريبة من حدودها.
الموقف التركي من أحداث 1915
تؤكد تركيا عدم إمكانية إطلاق صفة “الإبادة العرقية” على أحداث 1915، بل تصفها بـ”المأساة” لكلا الطرفين. وتدعو إلى تناول الملف بعيداً عن الصراعات السياسية، وحل القضية عبر منظور “الذاكرة العادلة”.
تقترح تركيا القيام بأبحاث حول أحداث 1915 في أرشيفات الدول الأخرى، وإنشاء لجنة تاريخية مشتركة تضم مؤرخين أتراكاً وأرمن، وخبراء دوليين.










