أصدر رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقائد الجيش السوداني، الفريق أول الركن عبد الفتاح البرهان، قراراً تاريخياً يوم الاثنين 31 أغسطس 2025 بتعيين المستشارة القانونية انتصار أحمد عبد العال أحمد في منصب النائب العام لجمهورية السودان. هذا القرار يمثل سابقة تاريخية، حيث تصبح أول امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخ البلاد, ويأتي في سياق انقلاب حقيقي على تقاليد وممارسات الحركة الإسلامية التي هيمنت على مؤسسات الدولة لعقود.
كسر الاحتكار الذكوري: نقلة نوعية في العدالة السودانية
يمثل هذا القرار نقلة نوعية في مسار العدالة بالسودان، إذ ظل منصب النائب العام حكراً على الرجال طوال العقود الماضية. وجه الفريق أول البرهان النيابة العامة والجهات المختصة في الدولة بوضع القرار موضع التنفيذ فوراً، ما يعكس جدية القيادة في دعم الإصلاحات المؤسسية وتوسيع دائرة المشاركة النسائية.
تُعد مولانا انتصار من أبرز القيادات القانونية ومن حيث الترتيب في هيكل النيابة العامة هي أقدم وكيل نيابة. هذا التعيين يأتي استكمالاً لمسيرة طويلة من نضال المرأة السودانية التي أثبتت حضورها القوي في المجالات القانونية والسياسية والاجتماعية، ويمثل رسالة واضحة على قدرتها على تحمل المسؤوليات الكبرى.
المحققة الأولى في فساد الإنقاذ: رمز المقاومة القانونية
تُعد مولانا انتصار أول من حققت في فساد نظام الإنقاذ, حيث كُلّفت بهذه المهمة من قِبل النائب العام الأسبق الوليد سيد أحمد محمود، الذي شكل لجنة عليا برئاستها وعضوية ثلاثة من رؤساء النيابة ووكيل نيابة، للإشراف على التحقيق في قضايا الفساد والمال العام، إضافة إلى الدعاوى الجنائية المرتبطة بالأحداث حينها، وذلك في 20 أبريل 2019.
من أبرز المناصب التي تولتها رئيس نيابة مكافحة الثراء الحرام والمشبوه ورئيس لعدد من اللجان ومفوض للفصل في الطعون التي تقدم للنائب العام إبان تولي مولانا عمر أحمد المنصب. كما تولت دوائر الفحص وهي دوائر يشكلها النائب العام للفصل في الاستئنافات التي تقدم إليه.
انقلاب على إرث الحركة الإسلامية: من التمكين إلى الإزالة
تاريخ الهيمنة الإسلاموية
شهدت الحركة الإسلامية في السودان تطوراً تاريخياً معقداً، بدأ بمعارضة شديدة لانقلاب مايو 1969, حيث اعتُقل كل من د. حسن الترابي وصادق عبد الله عبد الماجد ويسن عمر الإمام وعبد الرحيم حمدي وربيع حسن أحمد ودفع الله الحاج يوسف.
وصلت الحركة الإسلامية إلى ذروة نفوذها مع انقلاب البشير عام 1989, حيث استطاع الإسلام السياسي من الاستيلاء على كل المناصب المهمة بالسودان، فسيطروا على القرار السياسي والاقتصادي فيما سُمِيَ سودانياً بالعشرية الأولى. كان البشير على رأس النظام وله كرسي الحكم دون منازع مقابل أن ينفذ سياسة الحركة الإسلامية، وكانت السلطة على المجتمع السوداني للترابي وأتباعه من الإخوان.
سياسة التمكين والأخونة
بذريعة الأسلمة (الأخونة) تمكن الإسلام السياسي من الاستيلاء على كل المناصب المهمة بالسودان, حيث قاموا بمجزرة في الأجهزة المدنية والعسكرية، عندما أحالوا آلاف الموظفين في الجهازين المدني والعسكري للتقاعد، وتم فصل آخرين.
انقلاب البشير وتحالفه مع الإسلاميين أدى إلى جملة كوارث على السودان منها: انفصال جنوب السودان عن الوطن الأم، تعرض السودان لحصار اقتصادي دولي وعزلة دولية، انتشار الميلشيات العسكرية الإسلاموية.
من إزالة التمكين إلى إعادة التمكين
من النساء اللواتي فصلتهن لجنة إزالة التمكين وعادت بقرار من المحكمة, تُمثل انتصار عبد العال رمزاً للمقاومة القانونية ضد سياسات التمكين. بعد أن أعلن الإخوان المسلمون بأنهم مع الثورة الشعبية، بدأوا العمل والتنسيق مع مجموعات داخل المؤسسة العسكرية لعرقلة وإفشال حكومة الثورة.
تداعيات الحرب الأهلية والموقف من الحركة الإسلامية
استطاع الإخوان المسلمون لعب دور رئيس في الانقلاب الآخر في 25 أكتوبر 2021 الذي قاده الجنرال عبد الفتاح البرهان مع قائد قوات الدعم السريع حميدتي. لكن الإخوان المسلمين رفضوا اتفاق تسليم السلطة للمدنيين ودمج قوات الدعم السريع بالجيش، وأعلنوا العمل ضد تحقيقه لكونه يخرجهم من السلطة نهائياً.
عملوا على زرع الفتنة بين الجيش وقوات الدعم السريع، لتدخل البلاد بحرب أهلية جديدة ما تزال مشتعلة حتى يومنا هذا. استطاع الإخوان المسلمون توريط الجيش بحرب أهلية من خلال كتائبهم الجهادية، مما أدى إلى اشتعال حرب جاءت على ما تبقى من السودان.
التحديات المستقبلية: من العدالة الانتقالية إلى بناء الدولة
يُمثل تولي مولانا انتصار أحمد عبد العال منصب النائب العام لحظة فارقة في تاريخ السودان القضائي, حيث تتطلع الأوساط القانونية والمجتمعية إلى دورها في تطوير منظومة العدالة. هذا التعيين يأتي في ظل تحديات جسام تواجه السودان، من الحرب الدائرة بين الجيش وقوات الدعم السريع إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة.
العديد من كبار ضباط القوات المسلحة السودانية ملتزمون بأيديولوجية إسلاموية ترفض فكرة الحكومة العلمانية. أنصار الرئيس السابق في القوات المسلحة السودانية يستغلون هذا النزاع لخلق حالة من انعدام الأمن السياسي المواتية لعودة الحكم العسكري الإسلاموي.










