أثار السفير الأمريكي في تركيا، توم باراك، عاصفة من الجدل السياسي والإعلامي، بعد تصريحات وصف فيها الشرق الأوسط بأنه “ليس مجموعة من الدول القومية، بل مزيج من القبائل والقرى والعائلات الممتدة”، معتبرًا أن الهيكل الاجتماعي والثقافي في المنطقة لا يتناسب مع النموذج الغربي للدولة الحديثة.
قبائل الشرق الأوسط
في لقاء تصريحات صحفية، قال باراك:”لا يوجد شيء اسمه الشرق الأوسط، بل توجد قبائل وقرى. البريطانيون والفرنسيون هم من أنشأوا الدول القومية في عام 1916، لكن الشرق الأوسط لا يعمل بهذه الطريقة.”
وتابع موضحًا:”في هذه المنطقة، تبدأ الهوية بالفرد، ثم العائلة، ثم القرية، ثم القبيلة، فالمجتمع، فالدين. وأخيرًا، الأمة. هذا التسلسل معكوس تمامًا عما نراه في الدول الغربية.”
وتم تداول هذا المقطع على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بعد نشر مقاطع فيديو من فعالية استضافتها السفارة الأمريكية في تركيا بين 24 و25 سبتمبر 2025.
خلفية باراك ودوافع التصريح:
توم باراك ليس مجرد دبلوماسي تقليدي؛ فهو رجل أعمال ومستشار سياسي مقرب من الرئيس الأمريكي السابق والحالي دونالد ترامب. شغل سابقًا رئاسة لجنة تنصيب ترامب عام 2017، وهو مؤسس شركة “كولوني كابيتال” (المعروفة الآن بـDigitalBridge)، ويتمتع بعلاقات تجارية واسعة في الشرق الأوسط، خاصة في السعودية والإمارات.
في عام 2025، تم تعيينه رسميًا سفيرًا للولايات المتحدة في تركيا، إضافةً إلى دور مزدوج كمبعوث خاص لسوريا ولبنان، حيث يركز على إعادة الاستقرار، وعودة اللاجئين، والحد من النفوذ الإيراني.
تصريحاته الأخيرة تتماشى مع نهج “الواقعية المحلية” الذي يتبناه في مقاربة ملفات المنطقة: التعامل مع الفاعلين القبليين والمحليين بدلًا من التركيز على الدولة المركزية.
ما الذي قصده بسايكس-بيكو؟
أشار باراك في حديثه إلى اتفاقية سايكس-بيكو (1916)، وهي اتفاقية سرّية بين بريطانيا وفرنسا لتقاسم الأراضي العثمانية في المشرق العربي بعد الحرب العالمية الأولى، أرست الأساس لدول مثل العراق وسوريا ولبنان.
الاتفاقية بالفعل رسمت حدودًا مصطنعة تجاهلت البنى الاجتماعية والعرقية والدينية، ما أدى لاحقًا إلى أزمات في الانتماء والولاء.
لكن تجاهلت التصريحات عوامل محلية وعربية ساهمت في صياغة الكيانات السياسية، مثل مراسلات الشريف حسين مع البريطانيين، والحركات القومية العربية المبكرة.
تحليل التسلسل الهرمي الذي طرحه باراك: القرية ، القبيلة، المجتمع ،الدين الأمة، هذا التصور يُذكّر بفكر ابن خلدون حول “العصبية القبلية”، ويُعد نقدًا ضمنيًا لفشل مشاريع بناء الدولة الوطنية الحديثة، خاصة في بلدان مثل سوريا، العراق، ليبيا، اليمن، حيث تراجعت الدولة أمام القوى المحلية.
ردود الفعل والانقسام الحاد:
بعض المحللين المحافظين ووسائل إعلام خليجية رأوا في التصريح واقعية سياسية، تفتح الباب أمام حلول من “أسفل إلى أعلى” (من المجتمع إلى الدولة).
يتماشى مع سياسة ترامب التي تفضل التفاوض مع قوى محلية (مثل الأكراد أو العشائر) بدلًا من الأنظمة الضعيفة أو الفاشلة.
فيما وسائل إعلام عربية، خصوصًا فلسطينية وسورية، وصفته بأنه “استشراق متعجرف” يختزل المنطقة إلى كيانات بدائية.
أشار محللون إلى تناقض الموقف باراك يعارض الفيدرالية الكردية في سوريا لكنه يدعو إلى تمكين “الفاعلين المحليين”.
ماذا بعد؟
تصريحات باراك لا تأتي في فراغ. بل تعكس تحوّلًا أوسع في السياسة الأمريكية نحو الشرق الأوسط، يقوم على تجاوز الدولة المركزية الضعيفة، والاعتماد على وكلاء محليين.
وكذلك التفاوض مع قوى “ما دون الدولة” لتحقيق استقرار جزئي دون الدخول في إعادة بناء معقدة.
تصريح توم باراك يعيد فتح نقاش قديم – جديد: هل فشلت الدولة القومية في الشرق الأوسط؟
وهل الحل يكمن في العودة إلى البنى الاجتماعية التقليدية أم في إصلاح الدولة الوطنية الحديثة؟
سواء كان التصريح واقعيًا أم تبسيطيًا، فقد نجح في إثارة تساؤلات عميقة حول الهوية والانتماء والحكم في واحدة من أكثر مناطق العالم تعقيدًا.










