من أعماق المحيطات خرج ظلٌّ جديد من موسكو، يحمل اسمًا أسطوريًا: “بوسيدون”، الطوربيد الروسي فائق التطور الذي يعمل بالطاقة النووية، والذي يصفه الكرملين بأنه قادر على تغيير موازين الردع النووي في العالم. الاسم المأخوذ من إله البحر الإغريقي لم يعد رمزًا للأسطورة، بل صار مرادفًا للقوة والخوف.
أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوم أمس، عن أول اختبار “كامل” للنظام النووي الجديد، مؤكدًا أن الطوربيد تم إطلاقه من غواصة حاملة وفعّل مفاعله النووي في عرض البحر. وقال بوتين: “لا يوجد شيء مماثل له في العالم”. وأشار إلى أن السلاح الجديد قادر على تجاوز أي منظومة دفاعية مضادة للصواريخ.
سلاح غير مسبوق في تاريخ الحروب البحرية
الطوربيد بوسيدون، المعروف في تصنيفات الناتو باسم Kanyon، هو مزيج بين صاروخ طوربيدي وغواصة آلية مستقلة، يعمل بمفاعل نووي مصغّر. ووفقًا لمجلة Bulletin of the Atomic Scientists، يبلغ طوله نحو 20 مترًا وقطره 1.8 متر، ويزن حوالي 100 طن، ويمكنه الإبحار بسرعة 100 عقدة بحرية (185 كم/س)، والوصول إلى عمق يتجاوز 1000 متر.
لكنّ الأخطر ليس في سرعته أو عمقه، بل في مداه الهائل الذي يبلغ 10 آلاف كيلومتر، أي ما يكفي لضرب أهداف على الجانب الآخر من الكرة الأرضية. ويحمل الطوربيد رأسًا نوويًا بقوة قد تصل إلى 100 ميغاطن – ما يعادل أكثر من ألف ضعف قنبلة هيروشيما.
“سلاح نهاية العالم ” ”: تسونامي مشع يهدد المدن الساحلية
يصفه الخبراء في Bulletin of the Atomic Scientists بأنه “سلاح نهاية العالم”. فلو استُخدم ضد مدينة ساحلية، يمكن أن يولّد تسونامي مشعًّا بارتفاع مئات الأمتار، يجرف كل ما أمامه ويحوّل المناطق إلى صحارى مشعة غير صالحة للحياة لعقود.
ويحذر المحللون الاستراتيجيون من أن بوسيدون قادر على إغراق مدن بأكملها وقتل الملايين، مع آثار بيئية كارثية تمتد لعقود. والأسوأ، بحسبهم، أنه يضيف عنصرًا جديدًا وخطيرًا في العقيدة النووية: إمكانية تنفيذ هجوم ذري من دون تدخل بشري مباشر، باستخدام أنظمة ذكاء اصطناعي وتحكم عن بُعد، ما يفتح الباب أمام أخطاء تقنية أو هجمات سيبرانية كارثية.
رسالة سياسية أكثر منها عسكرية
يندرج بوسيدون ضمن الإرث السوفييتي الطويل في تطوير الأسلحة النووية البحرية، بدءًا من الطوربيدات T-5 وT-15 في الخمسينيات، وصولًا إلى نظام Perimeter (اليد الميتة)، المصمم لضمان الرد النووي التلقائي في حال تدمير القيادة الروسية.
ويقدّمه بوتين اليوم بوصفه ردًّا على انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الحد من الدفاعات الصاروخية (ABM) عام 2002، وإشارة واضحة إلى أن سباق التسلح النووي عاد مجددًا بين موسكو وواشنطن وبكين.
من المقرر أن تُزوّد غواصات روسية مثل “بيلغورود” و“خاباروفسك” بهذا السلاح، مع خطط لإنتاج نحو 30 وحدة قبل نهاية العقد. لكن العديد من الخبراء الغربيين يرون أن المشروع يهدف أكثر إلى ترهيب الخصوم وإظهار القوة السياسية، أكثر من كونه تهديدًا عسكريًا فعليًا.
فـ”بوسيدون”، في نهاية المطاف، ليس مجرد طوربيد نووي، بل رمز لعصر جديد من الحروب الباردة… حيث يلوّح البحر هذه المرة بسلاح قد يجعل المحيط نفسه قاتلًا.










