تحولت قضية المستشارة القانونية السابقة للجيش الإسرائيلي، يفعات تومر–يروشالمي، إلى فضيحة سياسية مدوية تهزّ المؤسسة العسكرية والحكومة على حد سواء، بعدما وُجهت إليها تهمة نشر فيديو بشكل غير قانوني يُظهر جنودًا إسرائيليين وهم يعذبون أسيرًا فلسطينيًا.
القضية تجاوزت الطابع القضائي لتتحول إلى صراع سياسي داخلي، إذ استغلها حكومة بنيامين نتنياهو والتيارات اليمينية المتطرفة لتصفية حساباتها مع القضاء والجيش في آنٍ واحد.

تومر–يروشالمي، التي كانت تُعدّ أحد أبرز الأصوات داخل المؤسسة العسكرية المطالبة بمحاسبة الجنود على انتهاكاتهم ضد الفلسطينيين، وجدت نفسها فجأة متهمة بـ“خرق القانون” بعد أن كشفت الحقيقة للرأي العام.
وفي الوقت الذي تُحاكم فيه لأنها فضحت التعذيب، يصف اليمين المتطرف الجنود المتورطين بأنهم “أبطال” ويدعو إلى وقف التحقيق ضدهم.
رئيس الوزراء نتنياهو اتهمها بأنها تسببت في “ضرر كبير لصورة إسرائيل”، دون أن يتطرق إلى الجرائم الموثقة في الفيديو، ما أثار موجة انتقادات واسعة في الداخل والخارج.
حتى الأسبوع الماضي، كانت يفعات تومر–يروشالمي تشغل منصب المستشارة القانونية العامة للجيش الإسرائيلي، وهي أعلى سلطة قضائية داخل المؤسسة العسكرية والمسؤولة عن التحقيق في انتهاكات الجنود.
لكنها اليوم معتقلة، بعدما أصبحت في قلب قضية مثيرة تتعلق بتسريب فيديو عن التعذيب، وسط تصاعد الضغوط التي تمارسها اليمين المتطرف على القضاء، وتورط أحد مراكز الاحتجاز الشهيرة الذي يحتجز فيه الفلسطينيون.

بدأت القصة في يوليو 2024، عندما نُقل أسير فلسطيني محتجز في مركز سدي تيمان إلى المستشفى مصابًا بجروح خطيرة في الصدر والبطن، مع كسور في الأضلاع وجروح في المستقيم، بعد أن تعرّض للاغتصاب بسكين.
هذا المركز الضخم أُقيم خلال الحرب على غزة لاحتجاز الفلسطينيين – غالبًا من دون توجيه اتهامات – واشتهر خلال السنوات الأخيرة بسبب الانتهاكات والتعذيب المنهجي الذي يتعرض له المعتقلون هناك.
بعد أيام من الحادث، فتحت تومر–يروشالمي تحقيقًا رسميًا في القضية، وأمرت الشرطة العسكرية باعتقال تسعة جنود يُشتبه في تورطهم في أعمال تعذيب.
إلا أن القرار فجّر غضبًا واسعًا في صفوف اليمين المتطرف، إذ تجمع نشطاء يمينيون وعدد من نواب الكنيست أمام السجن مطالبين بالإفراج عن الجنود، واندلعت اشتباكات مع الشرطة العسكرية، امتدت لاحقًا إلى قاعة المحكمة العسكرية التي كانت تنظر القضية.
في خضم هذه الفوضى، بدأت حملة سياسية وإعلامية شرسة ضد تومر–يروشالمي، اتهمها خلالها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأنها تمارس “عدالة انتقائية”، فيما صرّح وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير قائلًا إن عليها “ألا تمسّ بالجنود”.
غير أن مسار الأحداث انقلب عندما بثّت القنوات الإسرائيلية في أغسطس 2024 فيديوهات من كاميرات المراقبة في مركز سدي تيمان، تُظهر السجين الفلسطيني يُدفع بعنف نحو الجدار، قبل أن يسقط أرضًا متألمًا، بينما يقوم ثلاثة جنود بحجب الرؤية عن الكاميرات باستخدام دروعهم.
ورغم أن نشر هذه المقاطع كان انتهاكًا للقانون لأنها مواد تحقيق سرية، فإنها أثارت صدمة دولية ودفعت المستشارة القانونية إلى الاستمرار في تحقيقها حول الانتهاكات.
لكن المفاجأة وقعت الأسبوع الماضي، حين تبيّن أن تومر–يروشالمي نفسها هي من أمرت بتسريب الفيديو إلى الإعلام.
وقد أقرت بذلك لاحقًا، موضحة في رسالة استقالتها أنها اتخذت هذا القرار “لمواجهة الدعاية الكاذبة التي تستهدف القضاء العسكري”، وأضافت:
“للأسف، يبدو أن القناعة الأساسية بأن هناك أفعالًا لا يمكن تبريرها — حتى ضد أسوأ المعتقلين — لم تعد محل إجماع داخل إسرائيل”.
وبعد إعلانها، اشتعلت حملة اليمين مجددًا ضدها بشكل أعنف، إذ وصف سياسيون وصحفيون الجنود المتورطين بـ“الأبطال”، وطالبوا بوقف التحقيقات ضدهم، فيما تعرّضت تومر–يروشالمي لسلسلة من التهديدات الشخصية.
اتهمها نتنياهو بأنها “تسببت بأحد أسوأ الأضرار لسمعة إسرائيل”، لافتًا إلى أن الضرر لم يكن في جريمة التعذيب نفسها، بل في نشر الفيديو الذي كشفها — وهو ما أثار جدلًا واسعًا حول أولويات الحكومة وأخلاقياتها.
وفي تطور درامي، اختفت تومر–يروشالمي لبضع ساعات يوم الأحد الماضي، ما أثار شائعات عن محاولة انتحارها.
وقد أطلقت الشرطة حملة بحث واسعة باستخدام الطائرات المسيّرة، ليُعثر عليها لاحقًا على شاطئ في تل أبيب.
ولم تُعرف أسباب اختفائها بعد؛ فبينما قال منتقدوها إنها كانت تحاول إتلاف أدلة، لم تصدر أي تهم رسمية ضدها حتى الآن، لكنها لا تزال قيد الاحتجاز.
ويرى مراقبون أن حكومة نتنياهو تستغل القضية لتبرير خطوات جديدة تستهدف إضعاف استقلال القضاء الإسرائيلي.
فقد سارع وزير العدل إلى استغلال الحادثة لمهاجمة المدعية العامة للدولة، غالي باهاراف–ميارا، زاعمًا أنها متورطة في القضية.
مع ذلك، فإن صورة تومر–يروشالمي ليست بسيطة كما يحاول البعض تقديمها:
فقد نشرت صحيفة هآرتس تقريرًا كشفت فيه أن المستشارة نفسها تجاهلت في السنوات الماضية التحقيق في جرائم حرب إسرائيلية واضحة في غزة، بما في ذلك قصف قوافل الإغاثة التابعة لمنظمة “وورلد سنترال كيتشن” ومقتل 15 مسعفًا فلسطينيًا، بعضهم كانوا داخل سيارات تابعة للصليب الأحمر.
وقالت مصادر من داخل مكتبها إنها “كانت تدرك أن ما جرى خطأ أخلاقي وعملياتي وقانوني جسيم، لكنها فضّلت الصمت خوفًا من رد فعل الحكومة واليمين”.
أما الأسير الفلسطيني الذي تعرّض للتعذيب في سدي تيمان، فقد أُطلق سراحه لاحقًا ضمن صفقة تبادل بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، وعاد إلى غزة.
لكن غيابه عن إسرائيل قد يعرقل المحاكمة، إذ أصبح من الصعب إدانة الجنود من دون شهادة الضحية الأساسية.
القضية لم تعد مجرد مسألة قانونية، بل تحوّلت إلى معركة سياسية حول جوهر العدالة في إسرائيل.
فبينما يُلاحق من كشف الجريمة، يُكرَّم من ارتكبها، وتُستخدم القضية ذريعة لتقويض ما تبقى من استقلال القضاء أمام صعود نفوذ اليمين المتطرف داخل الدولة العبرية.










