في الوقت الذي يتصارع فيه العالم على مناطق النفوذ، تتحول مالي اليوم إلى ساحة اختبار خطيرة بين الجهاديين والقوى الدولية. فالمجموعة المسلحة المرتبطة بتنظيم القاعدة «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» تُحكم قبضتها على المناطق الريفية، وتضرب شريان الحياة في العاصمة باماكو بقطع إمدادات الوقود، لتدفع الدولة إلى حافة الانهيار الاقتصادي والسياسي الجهاديون يدفعون مالي نحو حافة الانهيار
وهى جماعة جهادية تابعة لتنظيم القاعدة تدفع دولة مالي في غرب إفريقيا نحو الانهيار، بعد أن سيطرت إلى حدٍّ كبير على المناطق الريفية وبدأت في خنق إمدادات الوقود المتجهة إلى العاصمة باماكو، مما يثير مخاوف من أن تتحول مساحة واسعة من غرب إفريقيا إلى إمارة جديدة للجهاديين.
ووفقًا لما نقلته وكالات الأنباء ،تم التواصل مع مكتب الرئيس المالي أسيمي غويتا، الذي تولى الحكم بعد انقلاب عام 2021. وفي هذا السياق، أوضح أولف لايسينغ، مدير برنامج الساحل في مؤسسة كونراد أديناور الألمانية ومقرها باماكو، أن الجماعات المسلحة
«تسعى الآن قطع إمدادات الوقود وشلّ الاقتصاد لإثارة احتجاجات تدفع الناس إلى الإطاحة بالحكومة العسكرية. وعندها سيُشكَّل ما يسمّى بحكومة وحدة وطنية يمكن للجهاديين التفاوض معها».
ما خطورة ما يحدث؟
إذا سقطت العاصمة باماكو في أيدي جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” (JNIM)، فسيكون ذلك انتصارًا مذهلًا للجهاديين، وسيمثل خطرًا كبيرًا بوقوع مزيد من الانقلابات أو بتمدد الإسلاميين المسلحين في باقي دول منطقة الساحل الإفريقي وما بعدها.
نجاحات الجماعة في مواجهة حكومة عسكرية مدعومة من روسيا كشفت عن هشاشة الوضع الإقليمي، وعن تفاقم الفوضى التي تدفع مزيدًا من المهاجرين نحو أوروبا ودول غرب إفريقيا الأكثر استقرارًا، وتزيد في الوقت نفسه من حدة التوترات السياسية في المنطقة.
العاصمة تحت الخصار … والبلاد على حافة الانهيار
في العاصمة باماكو، بدأت أزمة الوقود تتفاقم بسبب الحصار الذي يفرضه مقاتلو الجماعة، حيث ظهرت طوابير طويلة أمام محطات البنزين، وفقًا لشهادات السكان المحليين. وقد استهدفت الجماعة قوافل الوقود المتجهة إلى العاصمة خلال الأسابيع الأخيرة.
وفي مقطع فيديو صدر الشهر الماضي، حذّر المتحدث باسم الجماعة، أبو حذيفة البنباري، المدنيين من مساعدة الجيش، الذي يتلقى دعمًا من قوات روسية بعد أن تخلّى قادة مالي عن المساعدة الفرنسية التي استمرت لسنوات.
وقال لايسينغ إن «الروس وعدوا بالكثير، لكن بسبب وحشيتهم وعدم تمييزهم بين الجهاديين والمدنيين، جعلوا الصراع أكثر تعقيدًا».
من جهته، قال الرئيس أسيمي غويتا، في خطاب الاثنين الماضي، إن «قوى الشر تسعى لزعزعة استقرار البلاد وإعاقة تنميتها»، داعيًا جميع المشاركين في تلك الأنشطة إلى التوقف فورًا واختيار طريق السلام والوطنية.
تُعد جماعة نصرة الإسلام والمسلمين تحالفًا يضم عدة فصائل جهادية تنشط أيضًا في بوركينا فاسو والدول المجاورة الأخرى.
ووفقًا لتقرير لمركز “سوفان” للأبحاث في نيويورك، فإن «مالي تقف على حافة الانهيار، حيث يخنق فرع القاعدة في الساحل – جماعة نصرة الإسلام والمسلمين – إمدادات الوقود في البلاد، مما يجعل الحكومة في باماكو عرضة لخطر الانهيار».
آراء وتحليلات:
يقول أولف لايسينغ من مؤسسة كونراد أديناور:
«إذا سقطت باماكو، فستكون لذلك تداعيات ضخمة على غرب إفريقيا، وسيمنح الجهاديين دفعة قوية في بوركينا فاسو، التي يستخدمونها أصلًا كنقطة انطلاق للتسلل إلى توغو وبنين، حيث حققوا بالفعل بعض التقدم. ومن هناك، ستكون السنغال الهدف التالي المحتمل».
أما الرئيس المالي أسيمي غويتا فقال:
«انتصارنا لا يعتمد فقط على قواتنا المسلحة، بل أيضًا على وحدة ويقظة كل مالي».
وغرّد الباحث أندرو ليبوفيتش، من معهد “كلينغندال”، عبر منصة “إكس” (تويتر سابقًا):
«بعض المحللين يخلطون بين فكرة أن الجماعة تريد إسقاط الحكومة وبين أنها تريد السيطرة على باماكو وإدارة البلاد. وهما أمران مختلفان تمامًا، ويجب أن نتعامل معهما بدقة ومع تقديم الأدلة، رغم تدهور الوضع الحالي».
إلى أين تتجه مالي؟ السيناريو القادم
الحصار الذي تفرضه الجماعة على العاصمة يزيد من احتمالات حدوث انقلاب جديد أو اندلاع احتجاجات قد تؤدي إلى ذلك. ورغم أن الجيش، بدعم روسي، قد يتمكن من الدفاع عن باماكو، فإن فقدانه السيطرة على معظم أراضي البلاد يعكس مدى قوة الجهاديين المتصاعدة في منطقة الساحل، ويشجّعهم على التمدد في دول أخرى عبر المنطقة.
مالي اليوم تقف عند مفترق طرق قاتل: بين قبضة الجهاديين من جهة، وتصلّب الحكم العسكري من جهة أخرى، فيما يدفع المواطن العادي الثمن من وقوده وأمنه وغده.
ما يجري في مالي لا يمكن قراءته بمعزل عن الفشل المتكرر للانقلابات العسكرية في تحقيق الأمن والاستقرار. فمنذ أن أطاح العقيد أسيمي غويتا بالحكومة المنتخبة عام 2021، لم تتمكن السلطة العسكرية من فرض سيطرتها الكاملة، رغم الدعم الروسي الذي حلّ محلّ النفوذ الفرنسي. اليوم، يدفع المدنيون الثمن، إذ تصطف الطوابير الطويلة أمام محطات الوقود فيما يختنق الاقتصاد في العاصمة.
المفارقة أن التدخل الروسي، الذي رُوّج له كبديل “أكثر حزمًا” من فرنسا، انتهى بتفاقم الصراع. فكما يشير الباحث الألماني أولف لايسينغ، فإن وحشية العمليات الروسية وعدم تمييزها بين المدنيين والمسلحين زادت من نقمة السكان ووفرت أرضًا خصبة لتجنيد الجهاديين. وهنا يبرز السؤال الأهم: هل باتت مالي ضحية جديدة لصراع النفوذ بين موسكو وواشنطن وباريس، فيما يلتهم الإرهاب جسد الدولة قطعةً قطعة؟
مؤشرات الخطر الإقليمي:
سقوط باماكو – إن حدث – لن يكون مجرد أزمة محلية. فنجاح «نصرة الإسلام والمسلمين» في إخضاع عاصمة دولة بحجم مالي سيكون انتصارًا استراتيجيًا للجماعات الجهادية في الساحل، ودافعًا لتوسّعها نحو بوركينا فاسو وتوغو وبنين، مع تهديد محتمل لعمق السنغال. بمعنى آخر، المنطقة بأكملها تقف أمام خطر تحوّلها إلى “إمارة إرهابية” جديدة تمتد من تخوم الصحراء إلى سواحل الأطلسي
العالم يراقب بصمت، بينما تتهاوى الدول الواحدة تلو الأخرى تحت وطأة الحروب بالوكالة والتطرف الديني. مالي اليوم هي المرآة العاكسة لفشل النخب العسكرية في بناء دولة مؤسسات، ولعجز القوى الكبرى عن تقديم بدائل تنموية حقيقية لشعوب الساحل. وإذا استمرت المعادلة الحالية، فليس بعيدًا اليوم الذي نرى فيه خريطة غرب إفريقيا تُعاد رسمها على وقع رايات سوداء ترفع باسم الدين وتغذّيها لعبة المصالح الدولية










