جنوب السودان بحاجة إلى إصلاح جذري، لا إلى إقالات معادة التدوير
شهدت شوارع جوبا وعدد من المدن الأخرى في الثاني عشر من نوفمبر موجة من الاحتفالات العارمة، عقب إعلان الرئيس سلفا كير ميارديت إقالة نائبه الدكتور بنجامين بول ميل. وترددت أصداء الفرح في أرجاء العاصمة، وامتدت إلى جموع الجنوب سودانيين في المهجر، حيث استُقبل الخبر بالغناء والرقص والهتاف، في اعتقادٍ شعبي واسع بأن مرحلة سياسية جديدة قد بدأت.
غير أن الحقيقة التي ينبغي مواجهتها بوضوح هي أن هذه الخطوة، على أهميتها، لا تمثل الحل الجذري للأزمة الوطنية.
فما تمر به جنوب السودان من تحديات يتجاوز بكثير حدود تغيير الأشخاص في المناصب.
فالمعضلات البنيوية العميقة التي تواجه الدولة لا يمكن معالجتها بمرسوم رئاسي عابر.
“الاحتفال الحقيقي لا يكون بإقالة المسؤولين… بل بإحداث إصلاح حقيقي في بنية الحكم.”
تكرار النمط ذاته
ليست هذه هي المرة الأولى التي يُصدر فيها الرئيس كير قرارًا بعزل مسؤول كبير.
فخلال الأعوام الماضية، شهدت البلاد سلسلة من التعديلات أطاحت بوزراء، وحكام ولايات، وحتى نواب للرئيس — وغالبًا ما كانت تلك القرارات تُتخذ دون تبرير رسمي واضح، ودون أن تُسفر عن أي تغييرات ملموسة في الأداء الحكومي أو حياة المواطنين.
وتشير تقارير دولية صادرة عن وكالات مثل رويترز، أسوشيتد برس، وتشيمب ريبورتس، إلى أن مرسوم إقالة بول ميل لم يتضمّن أي أسباب معلنة، واكتفى بتجريده من رتبته العسكرية.
ورغم ما يصاحب هذه الإعلانات من صدى إعلامي واسع، يبقى الواقع على حاله.
تتغيّر الأسماء، لكن النظام لا يتغير.
تستمر الشبكات القديمة من الولاء السياسي والمحسوبية في التحكم بمفاصل الدولة.
ويُستبدَل وجه بآخر، من ذات الحلقة الضيقة، دون أي مساس بجوهر الإدارة أو بنية السلطة.
وهكذا، لا يتحقق إصلاح حقيقي، بل يتم إعادة تدوير الأدوار والوجوه في مشهد سياسي راكد.
جذور الأزمة
الواقع المؤلم واضحٌ للعيان:
المشكلة الحقيقية لا تكمن في هوية من يُقال، بل في نمط الحُكم ذاته.
لقد تحولت مؤسسة الرئاسة إلى مركزٍ مغلق للسلطة، تحتكر التعيينات، وتتحكم في الموازنات والقرارات المصيرية، في حين تم تهميش المؤسسات الرقابية، وتقييد دور الجهات الخدمية.
وغالبًا ما تُمنح المناصب وفق اعتبارات الولاء السياسي، لا بناءً على الكفاءة أو المؤهلات.
وعندما يُعفى مسؤول من منصبه، لا تسبقه عملية مساءلة، ولا تلحقه مراجعة لأداء المؤسسة، بل يُملأ المنصب فورًا بشخص آخر من ذات الدائرة السياسية، في عملية تفتقر إلى الشفافية والمحاسبة.
ومع استمرار هذا النهج، تجد البلاد نفسها اليوم على حافة انهيار مؤسسي شامل:
• مستشفيات فارغة من الأدوية
• مدارس بلا معلمين أو أدوات تعليمية
• بنية تحتية مدمرة
• موظفون حكوميون بلا رواتب
• فسادٌ مستشرٍ دون رادع
• وملايين المواطنين يرزحون تحت وطأة الجوع والحاجة
هذا ليس مجرد فشل في الإدارة… بل انهيار خطير لمقومات الدولة.
وما لم يتم الاعتراف بذلك بصدق وشجاعة، فإن الكارثة مرشحة للتفاقم.
ماذا يعني التغيير الحقيقي؟
إن التغيير البنّاء لا يتحقق بمرسوم مفاجئ.
بل يحتاج إلى مسار تدريجي، يستند إلى مبادئ الشفافية، والمساءلة، والمشاركة الحقيقية لكافة أطياف الشعب.
ولكي تنهض جنوب السودان من أزمتها، هناك خمسة إصلاحات عاجلة لا غنى عنها:
- المساءلة: يجب أن يخضع جميع المسؤولين، بمن فيهم رئيس الجمهورية، للمحاسبة أمام القانون وأمام المواطنين.
- الشفافية: ينبغي أن تكون القرارات مُعلّلة ومصحوبة بإجراءات عملية للإصلاح، لا مجرد صمت رسمي.
- إعلاء الكفاءة على الولاء: ينبغي أن تكون التعيينات مبنية على الجدارة، لا على اعتبارات الانتماء السياسي.
- إحياء الاقتصاد: يجب أن تُقدَّم الخدمات والفرص الاقتصادية على التنافسات السياسية الضيقة.
- قيادة شاملة: يجب فتح المجال أمام الشباب، والنساء، والمجتمعات المحلية، للمساهمة في صنع القرار الوطني.
تلك الإصلاحات ليست ترفًا سياسيًا، بل شروط بقاء لدولة على حافة التفكك.
نداء عاجل إلى الشعب
إلى أبناء وبنات جنوب السودان:
لقد حان وقت اليقظة.
لا يمكننا أن نستمر في الاحتفاء بإقالات شكلية، بينما تنهار أسس الدولة من حولنا.
نعم، نشعر بالارتياح عند صدور القرارات — لكن إن لم تواكبها إصلاحات حقيقية، فإنها لا تعدو كونها ضجيجًا بلا أثر.
ليس من المجدي أن نحتفل بإقالة نائب للرئيس.
بل يجب أن نحتفل عندما يتوفّر الدواء في المستشفيات،
عندما تفتح المدارس أبوابها،
عندما يدوم السلام،
وعندما تتحول القيادة السياسية إلى خدمة وطنية حقيقية.
إنقاذ جنوب السودان لن يتم بأيدٍ أجنبية.
بل أنتم وحدكم القادرون على إحداث التغيير.
يجب أن نرفع الصوت، نُطالب، ونُحاسب.
يجب أن نُصرّ على أن تكون السلطة في خدمة الشعب، لا أداة لتسلطه.
إذا التزمنا الصمت، فسوف يستمر الانحدار.
أما إذا نطقنا جميعًا — بسلمية وجرأة ووضوح — فلا يزال هناك أمل في مستقبل مختلف.
انتهى زمن التجمّل السياسي… وبدأ زمن التغيير الحقيقي.
الاقتباس الختامي
“جنوب السودان لا يحتاج إلى إقالة جديدة… بل إلى بوصلة واضحة، وخطة إنقاذ وطنية حقيقية.”










