منذ أن بدأ علم السياسة يُعيد ترتيب مفاهيم السلطة والنفوذ والشرعية، برزت كلمة «الأوليغاركية» باعتبارها واحدة من أكثر الصيغ قدرة على تفسير تحولات الأنظمة حين تنحرف عن روح الدستور، وتغادر منطقة الدولة الوطنية الحديثة إلى فضاء نفوذ الجماعات المسيطرة.
الأوليغاركية، ببساطة، هي حكم القلّة: طبقة ضيقة، ليست بالضرورة متجانسة، لكنها تمتلك من النفوذ الاقتصادي أو الأمني أو الإعلامي ما يسمح لها بأن تتحكم في الدولة من وراء ستار، حتى وإن ظلّت الواجهة شكلية ومتغيرة.
معنى الأوليغاركيه أن القلّة التي ترى نفسها فوق الدولة تتحكم في الدولة.
تاريخيًا، استخدم الإغريق مصطلح Oligarkhia لوصف حكم جماعة قليلة تهتم بمصالحها الخاصة أكثر من الصالح العام.
وفي العلوم السياسية الحديثة، اتسع المفهوم ليشمل:
نخبة اقتصادية تتحكم في الثروة وتؤثر على القرار السياسي.
نخبة أمنية/بيروقراطية تملك مفاتيح الجهاز الإداري وتعيد صياغة السياسات بما يخدم استمراريتها.
نخبة إعلامية تصنع الوهم العام وتشكّل الوعي لصالح الطبقة المسيطرة.
ليست الأوليغاركية شكلًا رسميًا للحكم، بل حالة تتغلغل داخل الدولة، تجعل مركز القرار الحقيقي خارج المؤسسات الدستورية، وإن ظلّت الأخيرة موجودة شكليًا.
إن ملامح الأوليغاركية في السياق المصري واضحة .على امتداد العقود الماضية، فقد شهدت مصر تحوّلات سياسية واجتماعية أدت إلى صعود تكوينات أوليغاركية داخل جسد الدولة. ويمكن رصد هذه الملامح من دون إصدار أحكام قطعية، ولكن بهدف الفهم والتنبيه.
منذ عهد مبارك، والتحرر الاقتصادي الضيق ، بدأت طبقة من رجال الأعمال ترتبط بالقرار السياسي، بشكل أو بآخر بدون تحكم ولكن بوجود مؤثر . ولكن في العقد الأخير، اتخذ الاندماج شكلًا آخر ، حيث نشأ توسّع اقتصادي لكيانات سيادية تحتمي باسمها وبثروات غير معروفة المصدر ، وخلقت طبقة جديدة من النفوذ تتقاطع فيها الثروة مع السلطة التنفيذية نفسها.
بل اصبحت لاعبا في السوق الاقتصادي بدون حياد ، وقدره علي الاستيلاء علي الأراضي واسهم الشركات الناجحة ونقض العقود بين الدولة والمواطنين.
ونظرا لأنها كيانات سيادية فقد نشأ نوع جديد من مركزية القرار الاقتصادي والسياسي خارج المؤسسات الدستورية.
على الورق، هناك برلمان، وحكومة، وأجهزة رقابية.
لكن الواقع يشير إلى أن كثيرًا من القرارات الكبرى تُحسم في «المركز المغلق» لا في المؤسسات المفتوحة للمساءلة.
هذا التمركز هو جوهر الأوليغاركية حيث يصنع القرار في نطاق ضيق، ثم يتم «تصديقه» عبر المؤسسات الشكلية.
الأوليغاركية تزدهر حين يغيب المجتمع السياسي بتهميش المجتمع وإضعاف الأحزاب.
ضعف الأحزاب وانهيار النقابات المستقلة جعل الساحة فارغة أمام القوى المسيطرة .
فلا يوجد توازن أو ضغط مضاد، مما يسمح للطبقة الحاكمة بالعمل دون مقاومة تُذكر.
من أدوات الأوليغاركية الأساسية السيطرة على السردية العامة.
فحين يختفي التنوّع الإعلامي، أو يهمش ، ويُختزل الواقع في رواية واحدة، يصبح المجتمع غير قادر على تقييم ما يحدث، أو حتى على إدراك اتساع الفجوة بين الخطاب الرسمي والحياة اليومية.
يزيد من ارتباك وجدان الشعب عدم قدرة كيانات الدولة الحاكمة علي التحكم في السوشيال ميديا ، فبدأت هي نفسها تُكون لجان الكترونيه غير شرعية في الصدام مع الآراء المعارضة العاقله والهجوم عليها.
زاد الطين بلًه ، لجان التنظيمات الإخوانية الإلكترونية التي تهاجم الدولة ومعارضيها الشرفاء وتثير الفوضي السيبرانيه.
علي ارض الواقع سيطرة اقتصادية من الاوليكارجية الجديده ، واشتباك سيبرالي بين الجميع ، مع غياب للمساءلة الدستورية وتقييد حرية الاعلام مما أدي الي ارتباك وجدان المجتمع وتفككه .
لماذا يجب أن ننتبه لهذا المفهوم الآن؟
ليست المشكلة في «سيطرة النخبة الجديده» بحد ذاتها، فكل المجتمعات لديها نخبتها.
المشكلة حين تتحول هذه النخبة إلى كتلة مغلقة: لا تُحاسَب ولا تتجدد ، ولا ترى إلا مصلحتها في البقاء.
عندها تنكمش الدولة، ويتآكل العقد الاجتماعي، ويُخلق شعور واسع بأن «الوطن لم يعد للجميع».
عندئذ ، تتراجع الثقة، وتزداد الفجوة بين الحاكم والمحكوم، وتصبح السياسات قصيرة النظر، لأنها تُصاغ لخدمة استمرار القلّة لا خدمة مستقبل المجتمع.
تحدي العقلاء هو هل يمكن تجاوز الأوليغاركية في مصر؟ التاريخ يقول إن التخلص من حكم القلّة لا يتم بالصدام بل بالوعي والتدرّج والإصلاح المؤسسي.
وأهم خطوط الإصلاح هي:
استعادة العلاقات السليمة بين السلطة التنفيذية وبقية مؤسسات الدولة.
تحرير المجال العام والإعلام لاستعادة التوازن الوطني.
إحياء المجتمع السياسي عبر أحزاب حقيقية لا لافتات.
فصل الاقتصاد عن الجهاز التنفيذي وخلق بيئة تنافسية عادلة.
تجديد النخبة عبر فتح المجال أمام طاقات الشباب والتعليم الحر.
خاتمة
ليس الهدف من الحديث عن «الأوليغاركية» في مصر صناعة صدام، بل إضاءة تشخيصية تحاول تفسير ما يشعر به المواطن من تهميش، وما يراه من سوء توزيع للسلطة والثروة، وما يلمسه من غياب للمسؤولية والشفافية.
إن إدراك الظاهرة هو الخطوة الأولى لاستعادة الدولة الحديثة، دولة القانون والمؤسسات، دولة الجميع لا دولة القلّة.
ولعل من واجب المثقفين والفاعلين الوطنيين أن يكتبوا وينتبهوا ويُنبّهوا، لا للتخويف، ولا للصدام ، بل للحفاظ على الوطن من الوقوع في فخّ تاريخي دُفِعت إليه دول كثيرة من قبل.
في بعض الأحيان وبمراجعة التاريخ الحديث لمصر اتعجب من هذه الأمة التي واجهت كل هذه التغيرات والضغوط والفرص الضائعة ، مع النكسات التي تقتل الأمم ، وما زالت فتّيه لا تنهار ..
لابد أنها تحمل چينات حضارة وقدرات كامنه وتنوير مستتر يقاوم كل ذلك.
مصر تستحق أفضل مما هي فيه ، وأمة يمثل شبابها أكثر من ٦٠٪ من سكانها ، وحباها الخالق بمصادر الجمال والقدره والتاريخ ، لقادرة علي صنع مستقبل أكثر إشراقاً .
إنني رغم هذه الأوليجاركية التي قد تتصف بها البلاد الآن ، والضغوط الدولية والإقليمية ، واحيانا كثيرة ، الغباء وقصر النظر في التعامل مع الفرص المتتالية ، عندي تفاؤل في المستقبل مبني علي رؤية واضحة في كيفية استخدام مصادر ثروة البلاد وشبابها وخبرة نخبة متنوره من شيوخها..
مصر تستحق
المصري اليوم










