في مارس من هذا العام، اندلع صراع في مقاطعة ناصر بولاية أعالي النيل، ما أدى إلى توقف فعلي لعمل اتفاقية حل النزاع في جنوب السودان المُنشَّطة لعام 2018، وذلك عقب دخول قوات دفاع شعب جنوب السودان (SSPDF) وقوات الحركة/الجيش الشعبي لتحرير السودان في المعارضة (SPLA-IO) والجيش الأبيض المتحالف معها في مواجهة عسكرية مباشرة. وقد أفضت هذه التطورات إلى وضع الدكتور ريك مشار—النائب الأول لرئيس الحكومة الانتقالية المُنشَّطة لوحدة جنوب السودان ورئيس الحركة/الجيش الشعبي لتحرير السودان في المعارضة—تحت الإقامة الجبرية، إلى جانب اعتقال عدد من كبار قادة حركته، فيما فرّ بعض القيادات، بمن فيهم النائب الأول لرئيس الحركة، إلى خارج البلاد طلباً للحماية.
وعقب ذلك، انقسمت الحركة الشعبية لتحرير السودان في المعارضة، وبات الدكتور ريك مشار وعدد من القادة يواجهون محاكمات بتهم تشمل القتل والخيانة وارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وقد وصف الناطق باسم الحركة هذه التهم بأنها “مطاردة سياسية” و“محاكمة صورية” أمام “محكمة غير شرعية”. ويرى كثير من المراقبين أن هذه المحاكمة ذات دوافع سياسية وتشكل مؤشراً على تفكك اتفاقية السلام المنشطة. وبغض النظر عن العوامل المؤثرة فيها، فإن إجراءات هذه المحاكمة تمثل اختباراً مهماً لسيادة القانون والقيم المدنية في الدولة الوليدة. كما يعتقد كثيرون أن الحكم النهائي—إدانة أو تبرئة—سيترك تأثيرات بعيدة المدى على مسار السلام ومستقبل الاتفاقية، ما لم تُحل النزاعات عبر الحوار وآليات فض النزاعات المنصوص عليها في الاتفاقية.
وفي السياق ذاته، شهدت الحركة الشعبية لتحرير السودان في الحكومة (SPLM-IG)—الحزب الحاكم في حكومة الوحدة الوطنية الانتقالية لعام 2015—حالة من التغييرات والانقسامات الداخلية، قادت إلى إعادة تشكيل واسعة في قيادتها، بما في ذلك إعفاء قيادات تاريخية مثل الدكتور جيمس واني إيقا، النائب الأول لرئيس الحزب والنائب الثاني لرئيس الجمهورية. وتلا ذلك تغييرات متكررة في مناصب الوزراء، خصوصاً وزير المالية، ومحافظ البنك المركزي، ورئيس هيئة الأركان للجيش، وعدد من وكلاء الوزارات.
ومع ذلك، يرى بعض المراقبين أن إعادة تعيين الدكتور جيمس واني إيقا نائباً أول لرئيس الحزب والدولة، وإعادة تعيين الفريق أول بول نانق رئيساً لأركان الجيش، وتعيين المبعوث الرئاسي للبرامج الخاصة السيدة أدوت سلفا كير، إلى جانب تعيين قادة قدامى في الجيش الشعبي مثل فيانق دينق، أفريكانو ماندي، ومبيور جون قرنق، قد أسهمت في تحقيق قدر من الاستقرار داخل الحزب الحاكم والجيش الوطني ومؤسسات الدولة.
كما شهدت بقية الأطراف الموقعة على اتفاقية السلام—ومن بينها تحالف المعارضة والأحزاب الأخرى والمعتقلون السابقون—انقسامات حادة، خصوصاً داخل تحالف سوا (SSOA).
وبالتوازي مع هذه الانقسامات، تزايدت حالة انعدام الثقة بين الأطراف الموقعة على الاتفاقية، ويعزو معظمهم ذلك إلى غياب الإرادة السياسية اللازمة لتنفيذ بنود الاتفاق. وقد عبّر أحد أعضاء هذه الأطراف عن أن المأزق الحالي ناجم عن “تأخير متعمد” و“انتهاكات مقصودة” للاتفاقية.
وتشير هذه الوقائع مجتمعة إلى أن اتفاقية السلام المنشطة تواجه صعوبات كبيرة في تحقيق أهدافها المتعلقة بالسلام والانتقال الديمقراطي، ويمكن القول إنها في “حالة حرجة” أو “تحت العناية المركزة”. ومع ذلك، يرى كثيرون أنها—سواء كانت في المشرحة أو في وحدة العناية—لا تزال الآلية الوحيدة المتاحة لجمع الأطراف على مسار السلام بدلاً من العودة إلى العنف.
وفي ظل ما يُوصف على نطاق واسع بأنه تأخير متعمد في تنفيذ الاتفاق وغياب للإرادة السياسية، يبرز السؤال الجوهري: هل يمكن إجراء الانتخابات في ديسمبر 2026؟
ففي سبتمبر 2024، اتفقت الأطراف على تمديد الفترة الانتقالية لعامين، مع تحديد موعد الانتخابات في ديسمبر 2026، مؤكدة أن هذا التمديد سيكون الأخير. كما كررت مفوضية المراقبة والتقييم المشتركة الالتزام ذاته. وعلى الرغم من تراجع حماس المواطنين بسبب تكرار التأجيلات، فإن استطلاعات الرأي الأخيرة تُظهر دعماً واسعاً لإجراء الانتخابات، رغم المخاوف من العنف.
وفي هذا الإطار، ذكّر الناشط إدموند ياكاني من منظمة سيبو الأطراف بمجموعة من الالتزامات القانونية وفق قانون الانتخابات الوطني لعام 2012 (المعدل 2023)، ويمكن تلخيصها على النحو التالي:
أولاً: دستور دائم غير موجود
تشترط اتفاقية السلام المنشطة أن تُنظَّم الانتخابات وفقاً للدستور الدائم. وبما أن الدستور الدائم لم يُقر بعد، فإن قانون الانتخابات الحالي—المستند إلى الدستور الانتقالي لعام 2011—يُعد غير صالح لإجراء انتخابات 2026، ما لم يُعدّل الاتفاق لفصل القانون عن اشتراط الدستور الدائم.
ثانياً: ترسيم الدوائر الانتخابية قبل عام من الانتخابات
يفترض أن تُنشر أسماء وحدود الدوائر بحلول 22 ديسمبر 2025. غير أن غياب التعداد السكاني يجعل من شبه المستحيل إضافة 56 دائرة جديدة كما ينص القانون. وقد تضطر المفوضية إلى التوصية بالإبقاء على الدوائر الـ102 القديمة كما كانت في انتخابات 2010.
ثالثاً: إعلان موعد الانتخابات
ينص قانون الانتخابات على إعلان موعد الانتخابات قبل ستة أشهر على الأقل، أي بحلول 22 يونيو 2026. ويستلزم ذلك توفر الدوائر الانتخابية مسبقاً، وهو ما يبدو غير متحقق حالياً.
رابعاً: حلّ الحكومة والبرلمان قبل الانتخابات
يفترض أن يحل الرئيس البرلمان والحكومة القومية وحكومات الولايات بحلول 22 سبتمبر 2026، إيذاناً بانتهاء نظام المحاصصة. غير أن اعتقاداً سائداً يشير إلى أن النخب الحاكمة ستسعى إلى تجنب هذا الاستحقاق، وقد تلجأ إلى المادة 8.4 من الاتفاقية لتمديد الفترة الانتقالية مرة أخرى، رغم أن مصادر موثوقة تشير إلى أن الرئيس غير راغب في التأجيل هذه المرة.
وبالنظر إلى هذه التحديات—إضافة إلى غياب التمويل الكافي لمؤسسات الانتخابات—تبدو الانتخابات في 2026 غير مرجحة. وفي المقابل، فإن أي تأجيل جديد قد يواجه برفض شعبي ودولي، وقد يفاقم الغضب العام ويقوض الثقة في الحكومة.
ومع حالة الشك القائمة، تظل مصلحة الأطراف في الانخراط بحوار جاد للتوافق على أجندة وطنية تضمن انتخابات ذات مصداقية. وفي هذا السياق، تُعد مبادرة وسيطات جنوب السودان خطوة مهمة لتوفير منصة لحوار شامل.
خيارات ممكنة أمام الأطراف لإجراء الانتخابات
- إجراء الانتخابات في الدوائر الـ102 القديمة فقط
مع تأجيل الدوائر الـ56 الجديدة لانتخابات لاحقة، بعد تعديل القانون والاتفاقية. - إجراء انتخابات جزئية للسلطة التنفيذية فقط
أي انتخاب الرئيس والحكام والمحافظين، وتأجيل الانتخابات التشريعية إلى حين اكتمال التعداد والدستور. - إنشاء بنية سياسية هجينة لإدارة المرحلة
تشمل تعيين حكومة تكنوقراط لفترة محددة، تكون مهمتها الأساسية تهيئة الظروف للانتخابات. - دعم مبادرة «تومايني» للسلام عبر كينيا
بإشراك الجماعات المسلحة غير الموقعة، بما يمنح أي تأجيل محتمل مبرراً سياسياً أكثر قبولاً داخلياً وخارجياً.
هذه الخيارات ليست متعارضة، بل يمكن دمج بعضها. غير أن القرار النهائي ينبغي أن يصدر عبر حوار شامل وجاد، كما أكد د. فرانسيس دينق بأن الأزمات كثيراً ما تحمل داخلها فرصاً.
ويُختتم هذا الطرح بالتأكيد على أن أي تعديل جوهري لاتفاقية السلام المنشطة أو قانون الانتخابات يتطلب توافقاً واسعاً، وأن مبادرة وسيطات جنوب السودان تمثل المنصة الأنسب لبناء هذا التوافق.










