من البيت الأبيض إلى ظلال النسيان.. بايدن يواجه اختبار التاريخ
جو بايدن بعد مغادرة البيت الأبيض.. رحلة الغموض السياسي وصراع الصورة الأخيرة
منذ مغادرته البيت الأبيض، يعيش الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن مرحلة دقيقة من حياته السياسية، بعد أربع سنوات مثيرة للجدل شهدت انقسامات داخلية حادة، ومواقف خارجية أعادت تشكيل ملامح الدور الأمريكي في العالم
. وبينما يلتفت العالم نحو إدارة جديدة، يبقى بايدن حاضرًا في المشهد السياسي والإعلامي الأمريكي، وسط تساؤلات حادة حول مستقبله ودوره المحتمل داخل الحزب الديمقراطي خلال السنوات المقبلة.
بعد تسليم السلطة رسميًا، فضل بايدن الابتعاد عن الأضواء لعدة أسابيع، قبل أن يعود تدريجيًا إلى الواجهة من خلال خطابات وتصريحات علنية تناول فيها تقييمه لفترته الرئاسية وانتقاده لبعض سياسات الإدارة الحالية
. ووفقًا لمراقبين في واشنطن، يسعى بايدن إلى إعادة تلميع صورته لدى الرأي العام الأمريكي، بعد أن غادر السلطة بنسب تأييد هي الأدنى لرئيس ديمقراطي منذ عقود.مصادر قريبة من الدوائر الديمقراطية كشفت أن بايدن ما زال يحتفظ بتأثير محدود في الكواليس، خصوصًا في ما يتعلق بالقضايا الاجتماعية وحقوق العمال والرعاية الصحية، وهي الملفات التي شكّلت العمود الفقري لسياساته.
إلا أن بعض الأصوات داخل الحزب ترى أن مرحلة بايدن انتهت فعليًا، معتبرة أن الديمقراطيين بحاجة إلى وجوه جديدة قادرة على مخاطبة الأجيال الشابة التي فقدت الثقة في القيادات التقليدية
.ورغم كل ذلك، لم يفقد بايدن هدوءه المعتاد؛ فقد صرّح في أحد اللقاءات الصحفية الأخيرة أنه “فخور بما حققه” وأنه “ترك البيت الأبيض أكثر استقرارًا مما تسلمه”، في إشارة إلى مشاريع البنية التحتية والتحول الأخضر وسياسات الحد الأدنى للأجور
. لكن على الجانب الآخر، يرى خصومه أن تلك الإنجازات لم تصمد أمام أزمات التضخم والهجرة والانقسام الاجتماعي الذي تصاعد خلال ولايته.
ومن أبرز القضايا التي ظلت تطارد بايدن حتى بعد خروجه من المنصب، التحقيقات التي فتحت حول إدارته للوثائق السرية التي عُثر عليها في مكتبه السابق بجامعة بنسلفانيا ومنزله في ولاية ديلاوير. وعلى الرغم من أن وزارة العدل لم توصِ بتوجيه اتهامات إليه، إلا أن القضية ألحقت ضررًا كبيرًا بسمعته السياسية، خصوصًا بعد أن استغلها خصومه الجمهوريون كورقة انتخابية قوية ضد الحزب الديمقراطي
.أما في الساحة الدولية، فما زال بايدن يواجه انتقادات بسبب سياساته السابقة في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية
. فقراراته المتعلقة بانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان عام 2021 ما زالت تُطرح كدليل على سوء تقدير سياسي وإستراتيجي، حيث اعتبرها خبراء “خطأً تاريخيًا” أساء لصورة الولايات المتحدة كقوة عالمية.
كما أن مقاربته للحرب في أوكرانيا وتحفظه تجاه بعض التحركات الإسرائيلية خلال ولايته السابقة أعطت انطباعًا متضاربًا لدى الحلفاء الأوروبيين حول ثبات السياسة الأمريكية.
من جهة أخرى، يحاول بايدن حاليًا إثبات حضوره من موقع “الرئيس المخضرم”، إذ بدأ سلسلة من اللقاءات العامة والندوات الأكاديمية تناولت تجربته في الحكم، كما أعلن عن نيته إصدار مذكراته السياسية في كتاب جديد يتناول كواليس القرار الأمريكي خلال أصعب المراحل التي مرت بها البلاد
. ومن المتوقع أن يثير الكتاب جدلًا واسعًا بسبب ما يتضمنه من تفاصيل لم تُكشف سابقًا عن أزمات البيت الأبيض والعلاقة مع الكونغرس ومعارضيه الجمهوريين
.وفي ظل الحديث عن الانتخابات الرئاسية المقبلة، لا يخفي بعض المقربين من بايدن قلقهم من أن إرثه السياسي مهدد بالنسيان في ظل تصاعد الجدل حول
الإدارة الجديدة ومحاولتها قلب السياسات التي تبناها.
بينما يرى آخرون أن بايدن قد يعود إلى الواجهة بوصفه “الرمز المحافظ والمستقر” داخل الحزب الديمقراطي، خاصة في حال استمرار الانقسامات بين الأجنحة الشابة والقديمة
.على المستوى الشخصي، يحرص بايدن على الظهور بصورة الأب والعائلة المتماسكة، مقتربًا من صورته القديمة التي ساعدته في كسب ثقة الناخبين عام 2020.
إلا أن الفضائح المحيطة بابنه هنتر بايدن ما زالت تلقي بظلالها الثقيلة عليه، إذ يستغلها خصومه الجمهوريون لتشويه سمعته ومهاجمة إرثه السياسي.
ومع ذلك، تراهن دوائر مقربة منه على أن الرأي العام الأمريكي سينظر إلى بايدن بعد سنوات كـ”رئيس هادئ في زمن صاخب”، وسط تقييم تاريخي أكثر عدلًا لما واجهه من تحديات عالمية معقدة
.في المحصلة، يبقى جو بايدن حاضرًا في الذاكرة السياسية الأمريكية كرمز للاستقرار والجدل في آنٍ واحد، رئيس حاول الموازنة بين الواقعية والمُثُل، لكنه انتهى إلى مواجهة أزمات داخلية وخارجية أضعفت إرثه.
واليوم، وبينما يتطلع هو والبلاد إلى المستقبل، يتساءل المراقبون: هل سيبقى بايدن جزءًا حيًا من التاريخ السياسي الأمريكي أم مجرد فصلٍ عابرٍ في كتاب طويل عنوانه “الأزمات المتكررة في واشنطن”؟










