غزة – 21 ديسمبر 2025
في واحدة من أكثر الملفات إثارة للجدل في السنوات الأخيرة، كشف تحقيق عن مخطط سري يهدف إلى تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة تحت مسمى “الهجرة الطوعية”. السكان يُجبرون على دفع آلاف الدولارات مقابل المشاركة في الرحلات، وسط سيطرة كاملة على تحركاتهم من قبل جهات إسرائيلية رسمية وشبكات منسقة سرية، ما يضع المدنيين بين مطرقة الفقر وسندان التهجير القسري ويثير تساؤلات عن حقوق الإنسان وشرعية الإجراءات المتخذة.
التهجير مقابل المال: تجارة حياة الفلسطينيين
كشفت التفاصيل أن تكلفة الرحلة الواحدة للفرد تتراوح بين 2 و6 آلاف دولار، وتُفرض على العائلات دفع المبلغ بالكامل قبل السماح لهم بالمغادرة. وفي كثير من الحالات، يضطر السكان لبيع أو رهن ممتلكاتهم لتأمين الرحلة، ما يحوّل العملية إلى مخطط اقتصادي قائم على استغلال ضعف السكان وليس مجرد حل إنساني مؤقت.
يشير محللون إلى أن هذا الأسلوب يجعل الهجرة الطوعية وسيلة لتحويل الفلسطينيين إلى “عملاء ماليين”، حيث تصبح الأموال عنصراً محورياً للبقاء على قيد الحياة والهروب من الظروف الصعبة داخل القطاع.
الإدارة الإسرائيلية للمخطط: الجيش والشركات الوهمية
تنفذ العملية بإشراف مباشر من الجيش الإسرائيلي عبر إدارة خاصة بالهجرة الطوعية يشرف عليها العقيد المتقاعد يعقوب (كوبي) بليتشتاين.
ويشارك في التنفيذ شبكة من الشركات الوهمية في دول أوروبية مثل إستونيا، التي تُستخدم لتأجير الطائرات وتنظيم الرحلات، لتضليل الضحايا وإيهامهم بأن العملية مدعومة من منظمات إنسانية مستقلة.
هذه الشركات تسهل كل العمليات المالية، بما في ذلك الدفع المسبق وتحويل الأموال عبر وسطاء محليين وعالميين، ما يعكس درجة عالية من التخطيط والدقة في التنفيذ.
المسارات الجوية: تعقيد وحذر شديد
رحلات التهجير تبدأ من نقاط سرية داخل غزة، غالباً قرب الأسواق أو المطاعم في خان يونس، ثم تُنقل العائلات إلى معبر كرم أبو سالم. بعد ذلك، تسلك الطائرات مسار بودابست، ثم تتفرع إلى جنوب شرق آسيا وأفريقيا، بما في ذلك ماليزيا، إندونيسيا، كينيا، وجنوب أفريقيا، حيث تُستقبل العائلات في مراكز مؤقتة تحت إشراف المنسقين.
جميع الوثائق الرسمية مؤقتة ومزيفة جزئياً لتسهيل عبور الحدود، ما يعكس درجة عالية من التحايل القانوني والتلاعب بالأنظمة الدولية.
المنسقون الفلسطينيون: حلقة أساسية
يقع الدور الرئيس على المنسق الفلسطيني مؤيد صيدم، الذي يدير المجموعات عبر تطبيقات الرسائل مثل واتساب، ويحدد نقاط التجمع، أوقات الحافلات، وتوزيع الأموال.
هذا الدور يجعل المنسق جزءاً من شبكة تتحكم في تحركات المدنيين، لكنه معرض أيضاً للضغط من السلطات الإسرائيلية، ما يعكس مزيجاً من التعاون القسري والاستغلال المتبادل.
آليات التهجير: الشركات الوهمية والخداع الرقمي
• الشركات والمنظمات المزيفة: مثل “المجد أوروبا” و”Talent Globus”، تُستخدم كواجهات لإضفاء شرعية وهمية.
• الشخصيات الحقيقية: تومير ليند يدير العمليات من خلف الستار، بينما مؤيد صيدم يشرف على التواصل مع العائلات ويعطي الانطباع بأن العملية إنسانية.
• الطائرات والشركات الأجنبية: استئجار طائرات من شركات رومانية وجنوب أفريقية لتأمين الرحلات إلى وجهات ثالثة، مع تغييرات متعمدة في المسار لإخفاء أثر العملية.
• المال والعملات المشفرة: الفلسطينيون يدفعون آلاف الدولارات غالباً عبر العملات الرقمية أو وسطاء لتجنب الرقابة المصرفية التقليدية.
آلية التنفيذ خطوة بخطوة
1. الإعلان والتواصل: وصول رسائل واتس آب من أرقام إسرائيلية تعرض خدمات “إنسانية” مع طلب دفع مبالغ مالية.
2. نقاط التجمع: توجه الأسر إلى مواقع سرية داخل غزة، مثل مطعم “فيش فريش” المدمر في خان يونس.
3. العبور والتنكيل: نقلهم بحافلات إلى معبر كرم أبو سالم، وتجريدهم من ممتلكاتهم واستبدال أسمائهم بأساور ورقية.
4. الرحلة الجوية: نقلهم إلى مطار رامون، ثم طائرات مستأجرة إلى محطات وسيطة مثل بودابست أو نيروبي.
5. الوجهة النهائية: توزيعهم على رحلات أخرى إلى دول إفريقية وآسيوية مثل جنوب إفريقيا، إندونيسيا وماليزيا، غالباً دون إعلامهم بالوجهة النهائية مسبقاً.
الخداع الرقمي: وهم الإنسانية
تعتمد الشبكة على مواقع إلكترونية وصور مزيفة وشخصيات مولدة بالذكاء الاصطناعي، لإيهام الضحايا بالدعم الإنساني. معظم المنظمات على الورق غير موجودة على أرض الواقع، ويتم التحكم في كل خطوة رقمياً لضمان عدم كشف الجهات القائمة على العملية.
الرسائل السياسية والاستراتيجية
• تهجير “طوعي” مقابل إرهاب مستمر: الاحتلال يصور العملية كخيار حر، بينما الفلسطينيون مضطرون إما للبقاء تحت الحصار أو دفع مبالغ طائلة.
• إدارة الأرقام الديمغرافية: مكتب الهجرة الطوعية تابع لوزارة الدفاع الإسرائيلية، بهدف تقليص عدد سكان غزة خصوصاً الشباب والأسر القادرة على إعادة البناء.
• الإنكار الرسمي: استخدام شركات وشخصيات وهمية لإخفاء المسؤولية القانونية والسياسية عن التهجير القسري.
الأبعاد الإنسانية والاجتماعية
العملية تترك أثراً نفسياً واجتماعياً كبيراً، خصوصاً على النساء والأطفال، الذين يواجهون فقدان ممتلكاتهم والانفصال عن أسرهم.
كما تؤدي إلى خلل اقتصادي كبير في القطاع، مع زيادة الاعتماد على التحويلات والمساعدات الخارجية.
الباحثون يشيرون إلى أن الهجرة الطوعية تتحول إلى أداة ضغط سياسية لتغيير التركيبة الديمغرافية وضبط تحركات السكان بما يخدم أهداف استراتيجية طويلة المدى.
الخلاصة
مخطط “الهجرة الطوعية” ليس مجرد عملية إنسانية، بل تهجير ممنهج مدفوع الأجر تحت سيطرة السلطات الإسرائيلية، مستغلاً ضعف السكان لأهداف مالية واستراتيجية.
تكشف العملية شبكة من الشركات الوهمية، التحايل الرقمي، والمراقبة الدقيقة لكل خطوة، ما يجعل المدنيين ضحايا مزدوجين: فقدان أموالهم والضغط النفسي والاجتماعي الناتج عن التهجير القسري.
إنها “نكبة نيوليبرالية”، حيث تحول التهجير إلى خدمة مدفوعة، مستغلة يأس الفلسطينيين الناتج عن حرب وحصار مستمرين، مع تحول أساليب الاستعمار التقليدية إلى أساليب حديثة رقمية وبيروقراطية.










