ما نشر في The Washington Post لا يمكن قراءته كنص إخباري معزول، بل كوثيقة سياسية صيغت بعناية لتؤدي وظيفة محددة في لحظة إقليمية دقيقة. فالتسريب، بمصدره وتوقيته ومضمونه، إسرائيلي بامتياز، ولم يكن من باب المصادفة. الرسالة المقصودة لم تكن موجّهة للرأي العام الغربي فقط، بل للفاعلين المحليين في الجنوب السوري، وفي مقدمتهم دروز السويداء، وللعواصم المعنية بمستقبل سوريا في آن واحد.
التقرير نقل صراحة عن مسؤول إسرائيلي استخدامه مصطلح “دروزستان”، لا للترويج له بل لنفيه، مع تأكيد معارضة إسرائيل قيام دولة درزية أو أي كيان انفصالي في سوريا. هذه التسمية، بحد ذاتها، كاشفة:فهي تُظهر أن الفكرة كانت حاضرة في المخيال السياسي الإسرائيلي، حتى عندما يجري إعلان رفضها اليوم. الموقف المعلن لا يعكس تحوّلًا أخلاقيًا، بل إعادة تموضع استراتيجية تفرضها لحظة سياسية مختلفة.
تاريخيًا، آمنت إسرائيل بنظرية “فرّق تسد”التي ورثتها عن الانتداب البريطاني وطوّرتها بما يخدم مصالحها: تجزئة المجزّأ، وتفتيت المفتّت، وتحويل الهويات الفرعية إلى أدوات سياسية وأمنية. في مراحل سابقة، لم يكن طرح دولة درزية في جنوب سوريا، ولا حتى أفكار ترحيل الدروز من داخل الخط الأخضر إلى كيان درزي محتمل، مجرد خيال سياسي، بل جزءًا من نقاشات جدّية هدفت إلى إضعاف الدول المركزية المحيطة.
لكن السياسة ليست عقيدة ثابتة. إسرائيل اليوم في موقع مختلف، والمنطقة تغيّرت، والأهم أن الولايات المتحدة في مكان آخر. إدارة دونالد ترامب صنّفت أحمد الشرع علنًا بوصفه صديقًا وحليفًا لواشنطن. هذه ليست عبارة بروتوكولية، بل إشارة استراتيجية تعني أن واشنطن قررت الاستثمار في استقرار الدولة السورية لا في تفكيكها، وفي سلطة مركزية يمكن التفاهم معها، لا في كانتونات متصارعة. وبهذا المعنى، كان على إسرائيل أن تعيد تموضعها وأن تُكيّف سياساتها مع الاتجاه الأميركي الجديد.
من هنا يُفهم الدعم الإسرائيلي المحدود لبعض القوى الدرزية في السويداء، كما ورد في التحقيق الأميركي، بوصفه أداة ضغط مؤقتة لا مشروعًا سياسيًا طويل الأمد. الهدف ليس تشجيع الانفصال، بل تحسين شروط التفاوض حول ترتيبات أمنية مستقبلية، في مقدمتها منطقة منزوعة السلاح في الجنوب السوري تمتد من محيط دمشق إلى الحدود. إسرائيل تريد أمنًا وحدودًا هادئة، لا خرائط جديدة ولا كيانات هشة قد تتحول عبئًا عليها.
وفي هذا السياق تحديدًا، لا يمكن فصل كشف التسليح والتمويل الإسرائيلي في السويداء عن هذا التحوّل. ففضح نقل السلاح والرواتب لا يعكس فقط تعرية مسار قد يورّط الداخل السوري أو يصبّ الزيت على النار، بل يُقرأ أساسًا، تنصّلاً مدروساً من الاستمرار وخلطاًمتعمّداً للأوراق. إخراج هذه المعطيات إلى العلن يضع مسافة محسوبة بين إسرائيل وهذا المسار، ويشير إلى نية سحب الورقة لا تعميقها. وفي الوقت نفسه، يؤدي الكشف وظيفة داخلية موازية، عبر تهدئة “الشارع الدرزي الضاغط “في الداخل الإسرائيلي والإيحاء بأن دعمًا ما قد قُدّم، بينما يجري عمليًا الانتقال إلى مرحلة التسويات. هكذا يتحول النشر من فعل دعم إلى إدارة انسحاب، واحتواء داخلي، وإعادة ترتيب للأولويات قبل إقفال الملف.
وفي الوقت نفسه، لا يجوز الخلط بين هذا التوظيف السياسي الخارجي لمأساة السويداء، وبين الحق الكامل وغير القابل للتصرف لأبناء المنطقة في محاسبة ومعاقبة كل من ارتكب مجازر وفظائع بحق المدنيين هناك، أياً كانت هويته أو الجهة التي ينتمي إليها وهنا تتحمل السلطة المسؤولية للمحاسبة ولرأب الصدع النفسي والوطني الذي خلفته الانتهاكات . هذا الحق لا يسقط بالتقادم ولا يجوز مصادرته أو الالتفاف عليه تحت أي ذريعة سياسية أو أمنية، وهو حق ينسحب كذلك على الجرائم التي ارتُكبت سابقًا في الساحل السوري ايضا . فلا استقرار بلا عدالة، ولا عدالة بلا مساءلة واضحة وعلنية، والفصل بين مطلب العدالة وبين مشاريع العزل أو الانفصال مسألة جوهرية، لأن الأولى حق، أما الثانية فمقامرة سياسية ذات أثمان بعيدة المدى.
هذا التحوّل انعكس أيضًا داخل إسرائيل نفسها. فحتى بعض القيادات الدرزية في الداخل، التي رفعت في مرحلة أولى لواء “الحماية الإسرائيلية” للسويداء، طُلب منها لاحقًا تعديل الخطاب: الاستمرار في إدانة المجازر والمطالبة بالمحاسبة، لكن بالتوازي مع دعوة دروز السويداء إلى التفاهم مع الدولة السورية لا القطيعة معها. هذا الضبط المختصر للخطاب ينسجم مع الاتجاه الاستراتيجي العام: حين تتجه إسرائيل نحو تسويات مع سوريا، تصبح ورقة الأقليات عبئًا يجب احتواؤه، لا شعارًا يُرفع بلا حساب.
التجربة التاريخية تعزّز هذا الاستنتاج. في كل الساحات تقريبًا، تخلّت إسرائيل عن قوى محلية اعتقدت أنها حلفاء دائمون عندما تغيّرت المصالح. جيش لبنان الجنوبي مثال صارخ: أداة استُخدمت ثم أُهملت بلا تردّد، من دون أي اعتبار للتداعيات الاجتماعية أو الإنسانية. في هذا المنطق، لا وجود لتحالفات أخلاقية، بل لاستخدامات وظيفية تنتهي بانتهاء الحاجة.
الخلاصة أن الرهان على إسرائيل بوصفها ضامنًا لمستقبل الدروز في سوريا هو رهان على قراءة خاطئة للتاريخ وللحاضر معًا. إسرائيل ذاهبة إلى تسوية وحلول مع سوريا، عنوانها الأمن والترتيبات العسكرية والحدود، لا حماية الأقليات ولا إعادة رسم الجغرافيا. وعندما تكتمل هذه التسوية، ستُطوى الأوراق التي لم تعد ضرورية بلا تردّد. الرسالة التي حملها التسريب الأميركي واضحة: تُستخدم ورقة الأقليات مرحليًا حجراً على لوح شطرنج تجيد اللعب عليه ، ثم تُطوى عند أول تسوية. وعلى دروز السويداء أن يقرأوا هذه الرسالة بوعي تاريخي وسياسي، يتناسب وارث الجبل الوطني والقومي ، لأن أثمان الرهانات الخاطئة لا تُدفع مرة واحدة، بل تُورَّث.











