في مشهد بروتوكولي بدا عاديًا ظاهريًا، حملت زيارة رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان الفريق عبد الفتاح البرهان إلى أنقرة رسائل أبعد من المجاملات الدبلوماسية، بعدما التقطت الكاميرات تحية لافتة وغير تقليدية بين البرهان ورئيس الاستخبارات التركية إبراهيم قالن، اختلفت بوضوح عن تحية بقية المسؤولين المشاركين في مراسم الاستقبال الرسمية التي أقامها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الخميس، بالقصر الرئاسي.
الفيديو الذي بثته منصات رسمية سودانية وتركية لم يكن مجرد توثيق لزيارة، بل تحول إلى مادة سياسية وإعلامية دسمة، خاصة مع تداول مقطع آخر أظهر تبادل كلمات باللغة العربية بين أردوغان والبرهان لحظة نزول الأخير من سيارة التشريفات، في رسالة رمزية مقصودة تعكس طبيعة العلاقة الشخصية والسياسية بين الطرفين.
تحية قالن.. بروتوكول مختلف أم رسالة استخباراتية؟
التحية الخاصة بين البرهان ورئيس جهاز الاستخبارات التركي لم تمر مرور الكرام. ففي العرف الدبلوماسي، لغة الجسد في مثل هذه المناسبات لا تُترك للصدفة، خصوصًا عندما يكون الطرف المقابل هو أحد أكثر رجال الدولة التركية نفوذًا في ملفات الأمن الإقليمي والوساطة السياسية.
التحية بدت أقرب إلى لقاء يعرف ما وراء الكواليس، ما فتح باب التساؤلات حول:
• حجم التنسيق الأمني والاستخباراتي بين أنقرة والخرطوم.
• دور تركيا المحتمل في إدارة أو احتواء الصراع السوداني.
• ما إذا كانت أنقرة تتحرك كوسيط سياسي فقط أم كشريك أمني فاعل في الملف السوداني.
أردوغان يتحدث عربيًا… والرسالة للداخل والخارج
اختيار أردوغان التحدث بالعربية أمام الكاميرات لم يكن تفصيلاً بروتوكوليًا، بل رسالة سياسية مزدوجة:
للداخل التركي، يؤكد استمرار الحضور التركي في القضايا الإقليمية الحساسة،
وللخارج العربي، يرسل إشارات انخراط مباشر في أزمة السودان بوصفها قضية أمن إقليمي وليست شأنًا داخليًا معزولًا.
الرئيس التركي أكد خلال اللقاء:
• حرص أنقرة على وحدة أراضي السودان.
• السعي إلى وقف دائم لإطلاق النار.
• الرغبة في لعب دور فاعل لتحقيق الأمن والاستقرار.
الفاشر في قلب الخطاب التركي
اللافت أن أردوغان لم يكتفِ بالعموميات، بل خصّ مدينة الفاشر في شمال دارفور بحديث مباشر، واصفًا ما يجري هناك بأنه انتهاكات ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية، وهو توصيف يحمل ثقلًا قانونيًا وسياسيًا كبيرًا، ويمثل تصعيدًا في نبرة الخطاب التركي تجاه أطراف الصراع.
هذا الموقف يضع تركيا ضمن قائمة الدول التي تمهد سياسيًا لتدويل الملف الإنساني السوداني، أو على الأقل استخدامه كورقة ضغط في أي مسار تفاوضي قادم.
تعاون اقتصادي أم نفوذ استراتيجي؟
وعود أردوغان بتعزيز التعاون في:
• التجارة
• الزراعة
• الصناعات الدفاعية
• التعدين
تعكس بوضوح أن تركيا لا تنظر إلى السودان فقط كملف أزمة، بل كـ ساحة نفوذ استراتيجي طويل الأمد، في بلد يمتلك موارد ضخمة وموقعًا جيوسياسيًا بالغ الحساسية على البحر الأحمر وعمق أفريقيا.
زيارة بدعوة رسمية… ولكن بتوقيت حساس
وكالة الأنباء السودانية (سونا) أكدت أن الزيارة جاءت بدعوة رسمية من أردوغان، لكن توقيتها يطرح تساؤلات مشروعة، في ظل:
• تصاعد الأزمة الإنسانية.
• تعقيد المشهد العسكري.
• تراجع أدوار بعض الوسطاء الإقليميين.
ما يجعل أنقرة تبدو وكأنها تملأ فراغًا دبلوماسيًا وتتحرك بخطى محسوبة لانتزاع دور محوري في مستقبل السودان السياسي والأمني.
الخلاصة
زيارة البرهان إلى أنقرة لم تكن بروتوكولية بحتة، بل زيارة محمّلة بالإشارات:
تحية استخباراتية خارج النص، لغة عربية مقصودة، خطاب إنساني تصعيدي، ووعود تعاون استراتيجي… كلها عناصر تؤكد أن تركيا تتحرك في السودان بعقل الدولة لا بعاطفة الوسيط.
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن:
هل نشهد بداية دور تركي أكثر جرأة في الملف السوداني؟ أم أن التحية كانت مجرد لقطة، تخفي وراءها ترتيبات أكبر لم تُعلن بعد؟










