علي العارف
لم تكن صبيحة يوم 24 شباط/ فبراير الماضي كمثيلتها من الأيام وربما تكون العنوان العريض الذي قد يخط بداية سلسلة الاحداث التي قد ترسم ملامح القرن الحالي تماما كما كان 28 يوليو 1914 اليوم الذي دشن القرن السابق. فبعد بداية غير موفقة للقوات الروسية فشلت في السيطرة علي كييف وتخبط في اعلان الأهداف الاستراتيجية للحملة العسكرية تلاها انسحاب من الجبهة الشمالية وإعلان التركيز على الجبهة الجنوبية والشرقية لينتهي المطاف بالحديث فقط عن اربع أقاليم كان إثنان “لوغانسك ودونيستك التابعين لمنطقة دونباس” يتمتعان بالفعل بالحكم الذاتي طبقا لاتفاقيات مينسك 2014 و 2015 واللتان أعاد الجيش الاوكراني الانتشار فيهما بمجرد نشوب الحرب ثم ما لبث أن نجح في الابطاء من سرعة خسائره فيهما ونجح في تحويلهما لما يعرف عسكريا بثقوب سوداء أوقفت الزخم الروسي ووفرت الوقت اللازم لأمريكا لتوريط باقي أعضاء حلف النيتو في ذلك الصراع بشكل مباشر.
فأوروبا التي كانت تحث روسيا على استحياء على الخروج من أوكرانيا واكتفت بفرض عقوبات اقتصادية على الروس، سرعان ما اغراها سوء أداء الجيش الروسي والذي توقعت تقارير غربية عديدة أنه سيسيطر على الأراضي الأوكرانية في غضون أيام من بداية المعركة التي توقع لها ألا تختلف كثيرا عن اجتياح جورجيا عام 2008 او احتلال القرم 2014. لكن الأداء المذهل للقوات الأوكرانية عالية التدريب نجح في خلق رهان جديد يمكن للغرب أن يعول عليه بمزيد من الثقة. يعود الفضل بالأساس في الصمود الأوكراني لأربعه أسلحة يأتي في مقدمتها صاروخ جافلين الأمريكي المضاد للدروع والذي نجح في التقليل بشكل كبير من الفجوة بين القوات المدرعة الروسية المتفوقة على الأقل عدديا ونظيرتها الأوكرانية التي كانت تملك نحو ثلث التجهيزات الروسية، وبدى أن الروس يعانون امام الرمح الأمريكي والذي حول دبابات تي 72 التي اعتمدت عليها روسيا بشكل شبه حصري في بداية المعركة لصيدا سهلا، ثم نجحت القوات الروسية في التعامل مع الجافلين عبر استخدام مسيرات تكشف انتشار مضادات الدروع قبل دخول الارتال الروسية داخل نطاق الاستهداف القصير نسبيا “2500 متر” مما قل من الخسائر الروسية.
ثاني الأسلحة الغربية كان صاروخ ستينجر والذي نجح في تحييد التفوق الروسي في المروحيات واجبر المقاتلات الروسية على عدم الطيران على ارتفاعات منخفضة لإلقاء حمولتها غير الموجهة وبالتالي اضطرت روسيا لإدخال مقاتلات اكثر حداثة من الجيل الرابع معزز “Su 35” ذات المناورة العالية والاعتماد على القصف الصاروخي الدقيق وهو ما دفع الغرب “تحديدا المخابرات البريطانية في 26 نوفمبر الماضي” للتكهن بقرب نفاذ المخزونات الروسية من المقذوفات الدقيقة لتعود بعد ذلك وتتراجع عن تلك التصريحات مع استمرار القصف الروسي الدقيق باستخدام صواريخ باليستية حديثة.
ثالث الأسلحة التي بنت عليها أمريكا الاستراتيجية الدفاعية لكييف تمثلت في الطائرات بدون طيار وتحديدا بيرقدار TB2 التركية والتي لعبت دورا مهما في وقف التقدم الروسي في الأيام الاولي للحرب بفضل تزويدها بصواريخ خارقة للدروع وموجهة بالليزر لكن سرعان ما نجحت منظومات البوك والتور الروسية عبر العمل بتناغم مع منظومات الحرب الالكترونية في اخراج تلك المسيرات تقريبا من الحرب.
فيما تمثلت اخر الأسلحة النوعية الغربية في منظومة هيمارس وهي المنظومة الوحيدة التي لا تزال تثبت نجاحها في أرض القتال والتي أجبرت روسيا على الانسحاب من خاركيبف وأجزاء من خيرسون ومدينة ليمان الاستراتيجية وبدي للجميع أن المخطط الامريكي في أوكرانيا في طريقه لإلحاق الهزيمة بالروس وهنا يتبادر لأذهاننا سؤال عن جذور تلك الاستراتيجية ومن أين تعلمها الأمريكيون.
لا شك أن العقلية الاستراتيجية الأمريكية كانت قد دفعت ثمنا باهظا لتتعلم الانتصار في الحروب بعد الحرب العالمية الثانية، فأمريكا التي خسرت نحو 54 ألف جندي امريكي في الحرب الكورية التي اندلعت 1950 ثم ما يزيد عن 58 ألف جندي في الحرب الفيتنامية تعلمت أن الانتصار هو لمن ينجح في استنزاف عدوه بخسائر بشرية ومادية لا يمكنه تحملها امام شعبه. فكوريا وفيتنام كانتا تقاتلان بدعم روسي وبأسلحة توصف بالاستنزافية “الكلاشينكوف والماليوتكا المضاد للدروع وصاروخ ستريلا 2 المحمول كتفا المضاد للمروحيات” وهي أسلحة رخيصة الثمن نسبيا عالية الحركة يمكن انتاجها على نطاق واسع وهي قادرة على الحاق اضرار بالأسلحة الامريكية باهظة الثمن ما شكل استنزافا اقتصاديا هائلا انتهي بهزيمة أمريكا عسكريا من فيتنام 1975 وسبقها هزيمة اقتصادية مدوية عبر الغاء أمريكا لاتفاقية بريتون وودز فيما عرف تاريخيا بصدمة نيكسون وذلك بعد استنزاف نحو 110 مليار دولار في تلك المغامرة العسكرية الفاشلة.
تعلمت أمريكا من الدرس وقررت ان تذيق السوفييت من نفس الكأس فكانت حرب أفغانستان 1979 والتي امتدت لنحو 10 سنوات وكتبت نهاية الاتحاد السوفيتي ومن جميل المفارقات ان أمريكا زودت المقاتلين الأفغان حينها ببنادق كلاشينكوف وستينجر المضاد للمروحيات وتاو المضاد للدروع وهي تقريبا ذات الأسلحة التي زودت بها روسيا الكوريين والفيتناميين سابقا وما بين عامين 1994-1996 عادت أمريكا لذات اللعبة وتلك المرة بأيدي الشيشانيين وبعد نهاية الحرب بعامين وتحديدا في أغسطس 1998 أعلنت روسيا افلاسها نتيجة الانفاق الضخم على إعادة التسليح والحرب وتخلفت عن سداد ديونها وتهاوت قيمة الروبل وبلغ التضخم 84%.
تفطنت أمريكا لعودة الروس كلاعب قوي على الساحة العالمية بفضل عودتها لمجال التطوير العسكري والعوائد النقدية الضخمة التي راكمتها بفضل صادرات الطاقة والمواد الخام بخاصة إلى أوروبا خلال العقدين الأخيرين، فسعت بلاد العم سام لإغراق الدب الروسي في المستنقع السوري لكنه لم يكن بالعمق الكافي لوجود ميليشيات علوية سورية وشيعية عراقية وباكستانية وقوات إيرانية تكبدت هي الثمن الأكبر في الخسائر البشرية وخرجت روسيا منه منتشيه وسعت للتمدد عبر قواتها شبه النظامية “فاغنر” في ليبيا ومالي وافريقيا الوسطي وموزنبيق.
بالعودة لحرب أوكرانيا الحالية فقد استغلت أمريكا ذلك الانتشاء الروسي وعملت على توريطها في مستنقع قادر على ابتلاعها. بنيت الاستراتيجية الأمريكية على ثلاث محاور. المحور الأول يتكون من شق اقتصادي تتحمل جزئه الأكبر القارة العجوز التي سيكون لزاما عليها طاعة أمريكا وفرض حظر على وارداتها من الغاز والنفط الروسي الرخيص و البحث عن بديل لن يتوفر سوي في صادرات الطاقة الامريكية باهظة الثمن، والمحور الثاني والذي يتمثل في التكلفه البشريه و التي سيدفعها الجيش الأوكراني في الميدان. والمحور الأخير يتحمله الساسة الأوروبيين الذين يجابهون الغضبات الشعبية نتيجة التبعات الاقتصادية والاجتماعية لمشاركة بلادهم في الحرب وتكتفي أمريكا بالمساهمة بمعونات اقتصادية وعسكرية بأرقام ضئيلة اذ ما قورنت بعوائد شركاتها العاملة في مجالي السلاح والطاقة في السوق الأوروبي خلال فترة تلك الحرب وما سيتلوها.
حتى سقوط سوليدار بدى أن المخطط الأمريكي القديم في طريقه للنجاح للدرجه التي اغرت أمريكا بمحاوله تكراره مع الصين عبر اتباع سياسة الوخز بالإبر. فتاره ترسل رئيسة مجلس النواب لزيارة تايوان وتارة ترسل أسلحة للجزيرة، كما علمت جريدة بوليتيكو أن وزارة الخارجية الامريكية أبلغت نظيرتها التايوانية في مارس الماضي بنيتها عدم الرد على طلباتها لشراء أسلحة هجومية ثقيلة وأنها اقترحت عليها شراء كميات كبيرة من أسلحة خفيفة استنزافية تصلح لحرب غير متوازنة اذ ما شرعت الصين في غزو تايوان وبررت موقفها بعدم قدرة الجزيرة على مجاراة الصين عسكريا لذلك نصحتها بانتهاج المسار الاوكراني عبر التزود بذات الأسلحة التي تقاتل بها كييف الآن وهو الأمر الذي أغضب تايبيه التي ترغب في التسلح لتجنب القتال لا لتكون كبش فداء تستنزف به أمريكا الصين.
بالطبع تكمن أهمية مدينة سوليدار الصغيره في كونها تمنح السيطرة النيرانية على جميع خطوط الامداد للقوات الأوكرانية المتحصنة في باخموت والتي تعد المدينة التي تربط جميع المدن التي لا تزال تحت ايدي القوات الأوكرانية في إقليم دونباس عبر شبكة طرق وسكك حديدية وبالتالي فالسيطرة عليها تعني عمليا قطع الامدادات عن باقي مدن إقليم دونباس أو علي الأقل تقليلها، غير أن أهميتها تتجاوز ذلك لكونها اول مدينة ذات أهمية تسقط في ايدي القوات الروسية بعد سلسلة من الهزائم والانسحابات التي منيت بها قوات بوتين منذ سبتمبر الماضي. سقوط سوليدار ارسل رسالة للغرب ببداية تحول دفة القتال مرة أخرى وبالتالي تقوية موقف بوتين في أي عملية تفاوض يمكن أن يدور حولها الحديث في مقبل الأيام بخاصة مع ظهور بوادر اضطرابات في صفوف الحلفاء الأوروبيين فبريطانيا و فرنسا وألمانيا وإيطاليا تشهد موجات من التظاهرات الشعبية الغاضبة والتي ترفض أن تقوم أمريكا باستنزاف الروس وأوروبا معا في تلك الحرب التي لن يخرج منها احد منتصرا سوى مصدري السلاح والطاقة الأمريكيين وهو ما اعلنه صراحة الرئيس الفرنسي ماكرون حين اتهم أمريكا “بالتربح من الحرب بينما تعاني دول الاتحاد الأوروبي وتتألم”
مع بداية ظهور التململ في صفوف الساسة الأوروبيين الذين يواجهون رفض شعبي متزايد لإرسال مزيد من الأموال والأسلحة لمعركة في اطراف القارة ليس لهم فيها ناقة ولا جمل سوى رغبة أمريكية في استنزاف الروس وربما سرقه حصتهم في سوق الطاقة الأوروبي، خشيت أمريكا أن تجد نفسها في معسكر دعم أوكرانيا منفردة، فاتخذت خطوات جادة متسارعة في اتجاه دعم أوكرانيا بأسلحة ثقيلة، وبغية حرمان الروس من الهيمنة الجوية وافق الكونجرس على تزويد كييف بمنظومات باتريوت فيما شرعت المانيا فعليا في ارسال منظومات ايريس وتعهدت إيطاليا وفرنسا بمنظومة سامب تي ارض جو ولم يقف الدعم الغربي عند منظومات الدفاع الجوي فقط لكنه امتد لتزويدها بأحدث الدبابات والمدرعات الغربية فقررت أمريكا ارسال نحو50 مدرعة من طراز برادلى، فيما تعهدت بريطانيا بتوريد دباباتها الأشهر تشالينجر 2 كما قررت المانيا تزويد كييف بـ40 دبابة من نوع ماردر و لا يزال التفاوض جاري فيما يتعلق بتسليم برلين دبابتها الأشهر ليوبارد 2 المصنفة من ضمن الأفضل عالميا والتي تعهدت بولندا بإرسال مخزونها من تلك الدبابة لأوكرانيا في حالة الموافقة الالمانية، واخيرا اكتفت فرنسا بدبابتها الخفيفة AMX10 RC المدولبة. كما أعلن البنتاجون صراحة أنه يدرس تحديث طائرات الميج الأوكرانية وتزويدها بوحدات الهجوم المباشر JDAM القادرة على تحويل المخزون الاوكراني الضخم من القنابل الغبية لصواريخ ذكية عالية الدقة موجهة بال GPS.
وهنا يمكننا القول ان الروس قد نجحوا في قلب الطاوله على الغرب. فالمعركة التي بدأت بغاية استنزاف الروس اقتصاديا وعسكريا لم تحقق اغراضها حتى الآن فالروس وجدوا في الشرق سوقا لطاقتهم بأسعار وإن كانت تفضيليه لكنها تظل مساوية لأسعار ما قبل الحرب وهي الأسعار التي سمحت لهم ببناء احتياطياتهم النقدية، كذلك استطاعوا أن يديروا المعركة في شهورها الأولي بأسلحة من الحقبة السوفيتية وربما ذلك ما يفسر تعرض الروس لخسائر كبيرة في بداية المعركة رغم تقدمهم ولعل ما ساعدهم على ذلك هو قدرة الدولة الروسية على تحمل خسائر بشرية أكثر مما قد تتحمل نظيراتها الغربية لو كانت في ذات الموضع.
الحرب التي بدأها الغرب بأسلحة استنزافية اثبتت فشلها في استنزاف أسلحة الروس الحديثة التي لم يستخدم منها سوى منظومات صواريخ كاليبر وإسكندر أرض أرض، وجل ما فعلته تلك المعركة أنها قضت على جزء من الأسلحة التي كان قد وجب إخراجها من الخدمة في الجيش الروسي ربما منذ عقد من الزمان. وحين أدرك الغرب عجز الأوكران على الصمود دون أسلحة ثقيلة اضطروا لإرسال منظومات للدفاع الجوي يبلغ متوسط أسعارها ما يناهز المليار دولار و يبلغ سعر الصاروخ فيها نحو مليوني دولار وذلك لصد طائرات انتحارية من طراز شاهد إيرانية الصنع لا تتجاوز تكلفتها عشرين ألف دولار وبذلك نجحت المسيرات الإيرانية متواضعة التقنية رخيصة الثمن في إصابة أهدافها سواء بالاستهداف أو الاستنزاف وعلى ذات المنوال ستفعل صواريخ الكورنيت الروسية المضادة للدروع في الدبابات والمدرعات الغربية المنتظر وصولها قريبا لساحة المعركة التي باتت عبأ على الغرب اكثر مما هي على الروس.
يوما تلو الاخر يظهر للعيان أن أمريكا لم تكن الوحيدة التي تعلمت من حماقاتها السابقة “كوريا وفيتنام”، فالروس أيضا تعلموا من حماقات أفغانستان والشيشان ويسعون لتوريط الغرب في معركة استنزافية يقذفون هم فيها بما تهالك من أسلحتهم فيما تضحي فيها أمريكا بحلفائها الأوروبيين الذين سيجدون أنفسهم الخاسر الأكبر اقتصاديا وعسكريا وسياسيا.
نجحت استراتيجية سيرغي سوروفيكين الدفاعية في الانسحاب من المناطق الخطرة والتمترس خلف الضفة الشرقية لنهر دنيبرو في دفع زيلينيسكي الذي يعاني من وطأة استهداف بنية دولته التحتية في الضغط على النيتو لتسريع إرسال مزيد من الدعم العسكري والاقتصاد لبلاده قبل قبل أن تسقط أمام الروس الذين لجئوا لخطتهم التي لا تقهر عبر عقود والتي كسرت اعتي العقول العسكرية عبر التاريخ “نابليون وجنرالات المانيا النازية” وهي التحصن في مواطن دفاعية قوية وانهاك العدو واستهداف خطوطه اللوجيستية وتركه فريسة سهلة لحليف الروس الأكبر “الجنرال الأبيض… الشتاء” .
تبدلت أطراف اللعبة وبات الغربيون الان مجبرون على تزويد الاوكران باسلحة ثقيلة مكلفة فتحول الصياد الي فريسة سهلة للاسلحة الدفاعية التي طالما برع الروس في إنتاجها عبر عقود.