د.أحمد القديدي
خطأ عربي شائع
مع خالص الاحترام والتقدير أكتب رسالتي المفتوحة هذه إلى كل المسؤولين العرب من باب النصيحة وبدافع الاعتبار بالتجارب التي عشناها في بعض بلادنا العربية بحلوها ومرها. أسمع أحيانا أن الحكومة طلبت من الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحكومي مدها بالسير الذاتية لمرشحي هذه الأحزاب لتعيينهم محافظين أو مساعدي محافظين يسيرون شؤون محافظة أو جزء من محافظة إداريا وفي تونس نسميهم ولاة ومعتمدين أولين ومعتمدين (محافظين ومساعدي محافظين). وشعرت بأن السياسيين مستمرون في ارتكاب نفس الأخطاء وأصبت بالصدمة لإحساسي بأن النخبة السياسية الحاكمة في بعض بلاد العرب ما بعد الهزات العنيفة التي عصفت بمنطقتنا وبالعالم العربي لم تستخلص أقسى درس سياسي علمته لنا الأيام والمحن وهو أن أكبر الأخطاء السياسية العربية هو خطأ الخلط بين الإدارة والسياسة وهو الخطأ الذي لم ترتكبه الديمقراطيات الراسخة التي تعلمت دروس التاريخ أما خوفي فهو نتيجة كوني عشت اربعين سنة في أوروبا وبالذات في باريس وتعرفت عن كثب على تركيبة دولها وسر قوة مؤسساتها الدستورية وخفايا استمرار الدولة مهما تداولت الأحزاب على السلطة وكثيرا ما تحاورت مع أصدقاء أوفياء قدامى من وزرائها وسفرائها ومحافظيها في فرنسا وأدركت أن هذه الدول تنأى بنفسها ولا تسعى أية سلطة تنفيذية إلى تعيين متحزبين حتى من صلبها اتقاء منها لشر من أخطر الشرور وهو ما شرحه لي الوزير الأسبق والسياسي القدير صديقي (برنار ستازي) حين قال لي (تصور الكارثة لو أن منطقة باريس يعين عليها محافظ يختاره الحزب الاشتراكي فيقال إن مدينة باريس اشتراكية وأن منطقة (السين والمارن) مثلا يعين عليها محافظ من حزب (ديجول) اليميني فيقال إن هذه المنطقة يمينية … إلى غير هذه التصنيفات الجائرة والمخلة بالوحدة الفرنسية الوطنية والمتسببة في تجزئة إيديولوجية للبلاد مما يمهد للتناحر لا على صعيد الخيارات السياسية بل على صعيد إدارة الدولة. إن حياد الإدارة يبدأ من السلطة المحلية ثم السلطة الجهوية فالإقليمية لأن الحاكم الإداري يمثل رئيس الجمهورية أي ينوب عن رأس الدولة في منطقته ويظل تحت إدارة رئيس الإدارة وهو رئيس الحكومة وتحت التراتبية الإدارية لوزارة الداخلية وليس منتدبا من حزب.. ثم إن نكبة العراق ومحنة سوريا وفوضى ليبيا وأزمة اليمن هي كلها من أصول أخطاء واحدة اشتركت فيها الأنظمة العربية وهي تعيين الموالين والمتحزبين في مناصب إدارة الدولة جهويا ووطنيا حتى ضاعت حقوق الناس هنا وهناك بين التجاذبات والصراعات والايديولوجيات وتقطعت الدولة إربا بين الأحزاب.
وتحولت الولايات أو المحافظات من أجهزة تخدم المواطن إلى أجهزة تقمعه ومن أدوات صيانة حقوق الناس إلى أدوات لسلبه ونهبه وتحزيبه كما تحول المواطن العربي من بشر سوي إلى ذئب بشري يدين للحزب وقائد الحزب عوض أن يدين للدولة الحاضنة باحترامه للقانون والتزامه بخدمة الصالح العام. ثم إن إدارة المحافظة (الولاية) لدينا لا تكون إلا من قبل رجل (أو امرأة) تعينه الدولة ممثلة في شخص رئيسها حسب اعتبارات ومعايير موضوعية ويختار من بين كوادر الإدارة الأكفاء والبعيدين عن التحزب وبلادنا العربية بحمد الله تعج بالشباب المتمتع بالقدرة على معالجة الملفات وتجميع القوى الفاعلة
وتأمين المرافق الحيوية وهو لن يكون وحده أو يستبد بالسلطة لأن الدستور يضمن إنشاء مجالس محلية وجهوية منتخبة تقوم بسن الخيارات ومساعدة الإدارة. فالمجالس الجهوية في أغلب دول الاتحاد الأوروبي كما عايشتها منبثقة عن انتخابات شديدة الأهمية عديدة المشمولات تماما كالانتخابات البلدية وهي في هذه البلدان تدير الحياة الجهوية وتخدم مصالح الأقاليم بكفاءة شعورا منها أنها مدينة بمناصبها للناخب المحلي الذي يستطيع أن يسحب منها ثقته في الانتخابات القادمة ويغير من التركيبة حسب مستوى نجاحها أو إخفاقها. لا دخل لأي حزب في اختيار ممثل الدولة ولا في عمله اليومي ولا في مشمولاته وهو ما يعرف لدى الأوروبيين بواجب حياد الإدارة وهو واجب دستوري يحترمه الجميع (نظريا بالطبع لأن التجاوزات ممكنة وحصلت ولكنها أصلحت) إن مبدأ حياد الإدارة وطنيا وجهويا من أغلى مكاسب التطور السياسي للشعوب بعد أن اكتوت بنار الخلط بين الدولة والسياسة والغريب في نظري المتواضع أننا لم نتعظ بل ونستعد للنظر في السير الذاتية لمرشحي الأحزاب لتقلد منصب مسؤول جهوي ! ليس من الخطير أن نخطأ الخيار ولكن من الأخطر أن نمضي في الخطأ ولا نستخلص دروس التاريخ القريب..
( الشرق القطرية )