صراع الجنرالات.. كيف ينزع الفتيل؟
د. ياسر محجوب الحسين
استكملت الأزمة السودانية شروط حالة الانفجار المدمر، بعد أن أضحى الصراع بين الجنرالين على المكشوف وتصاعدت حرب التصريحات بينهما لأعلى درجة، فالحرب أولها كلام. ولا يبدو حتى الآن في الأفق المكفهر أي محاولات جادة لنزع الفتيل، والفتيل – أو الشعال – في مجال المتفجرات هو الجزء المسؤول عن إيصال الشرارة إلى الذخيرة. ليس بين الرجلين أجسام قوية قادرة على منع الاحتكاك بينهما، وعندما نقول الرجلان فإننا نختزل القوتين العسكريتين اللتين تحت إمرتهما، فالقوى المدنية نسمع ضجيج طحينها ولا نرى طحينها، فهي غير مؤهلة للقيام بدور نزع الفتيل، هذا إن لم يكن بعضها يدفع الرجلين للصدام. فموقع القوة المدنية من إعراب الحالة السودانية لا محل لها من الإعراب وفي أحسن الأحوال تمثل علامة السكون. فالإعراب له علامات أربع هي الضمة والفتحة والكسرة ثم السكون.
لعل أكبر أخطاء الجنرال محمد حمدان المشهور بحميدتي قائد قوات الدعم السريع والذي ينازع قائد الجيش السوداني السيطرة على الأوضاع في البلاد، والتي اعترف بها، ليس المشاركة في ما اعتبره انقلابا على عبد الله حمدوك رئيس الوزراء السابق وإنما المعضلة كانت دائما في خطابه السياسي الذي يعتبر الأكثر إرباكا للساحة السياسية السودانية والذي بقيت شظاياه الحارقة تنتاش استقرار وأمن البلاد لا سيما النسيج الاجتماعي الواهن. المدهش في ما وصفه بالانقلاب في 25 أكتوبر 2021، أن الاعتراف يستوجب المحاكمة على اعتبار أن السلطة الحالية، وهو جزء منها، تحاكم اليوم الرئيس السابق عمر البشير على انقلابه على رئيس الوزراء الأسبق الصادق المهدي قبل ثلاثين عاما ونيف. فلو أن الندم كافٍ لإسقاط (الجرم)، فمن حق البشير أن يعطوه هذه الفرصة باعتبار ذلك نوعا من العدالة التي تنتحب اليوم وتبكي جراء انتهاك أسسها وموجباتها.
ويفتقر الجنرال حميدتي للخبرة السياسية فضلا عن العسكرية وقد وجد نفسه بشكل مفاجئ على قمة هرم السلطة في البلاد. هذه الظروف التي أحاطت بالرجل جعلت منه أداة طيعة في أيدي الآخرين لاسيما خارجيا. ودق حميدتي بموقفه الأخير من قائد الجيش آخر مسمار في نعش ما عرف بالاتفاق السياسي الإطاري الموقع في الخامس من ديسمبر الماضي. وسبق لحميدتي أن قال معرضا بقائد الجيش، إنه لو كان الرئيس السوداني الأسبق، جعفر نميري، حيا لسلّم إليه السلطة لأنه كان قويا ومسيطرا تماما على الأمور!. وهناك من تساءل حينها عمن يحق له أن يمتلك السلطة ومن يحق له أن يسلمها لمن يشاء؟!. وإلى أبعد من ذلك اتهم حميدتي الأجهزة الأمنية التي تحسب على سلطات خصمه الجنرال عبد الفتاح البرهان بالتواطؤ مع العصابات التي تنهب وتعتدي على المواطنين.
وفي نظر البعض أن حميدتي ظل يحاول الهروب إلى الأمام من تهمة تورط قواته في أحداث دامية في دارفور وجنوب كردفان فضلا عن اتهامها بفض اعتصام القيادة العامة الشهير في يونيو 2019. ومعلوم قوات الدعم السريع التي يقودها حميدتي ظلت محل انتقاد من جانب عسكريين مهنيين وكذلك من جانب أطراف سياسية وشعبية بسبب تجاوزات أفرادها، ونفوذها الطاغي، الذي بات يهدد استقرار البلاد. ولعل أسوأ ما في الأزمة أن الخلاف بين الرجلين قد يتعداهما إلى خلاف بين الجيش الوطني والدعم السريع وهنا مكمن الخطر، فحتى لو ذهب الرجلان فإن الخطر سيظل قائما ما لم تندمج قوات الدعم السريع في الجيش تحت قيادة واحدة، وإلا فإن تطور الصراع بين الطرفين قد يدفع بأطراف خارجية للتدخل.
وربما الذي أثار حفيظة حميدتي تصريحات للبرهان ربط فيها بين دمج قوات الدعم السريع في الجيش وبين المضي قدما في تنفيذ الاتفاق الإطاري. وعزا موافقة الجيش على الاتفاق الإطاري لتضمنه بندا مهما جدا يهم العسكريين، وهو دمج قوات الدعم السريع في الجيش، وأعتبر ذلك هو الفيصل بينهم وبين الحل الجاري الآن.
سياسيا يرى حميدتي التركيز على المضي قدما في الاتفاق الإطاري وعزل قوى سياسية أخرى وهو رأي المجموعة السياسة التي تحالف معها مؤخرا وهي قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي بعد انشقاقها لمجموعتين. غير أن البرهان يرى ضرورة التمهل حتى يتم جمع بقية القوى السياسية حول الاتفاق السياسي. وحتى إذا اتفق الرجلان حول هذا الاتفاق وهو أمر مستبعد، فإنه لا يبدو حلا سحريا للأزمة التي تمسك بتلابيب البلاد، إذ إن أطرافه غير معنية بإنهاء الفترة الانتقالية وإقامة انتخابات وتحقيق العدالة. بيد أن الذي يدور ليس أكثر من نزاع بين مجموعات سياسية وحزبية متهافتة على تقاسم السلطة، والاستئثار بها فهي سلطة سهلة لم تأت بانتخابات وتفويض شعبي.
ويبدو أن البرهان يستند في حربه مع حميدتي إلى مرتكزين أساسيين: الأول الجيش الوطني باعتباره المؤسسة القومية الوحيدة وصاحبة الرصيد النضالي وعلاقاتها الخارجية باعتبارها قوات مهنية وذات انضباط عالي المستوى. كما أن البرهان يرتكز في الدعم الخارجي لا سيما الأمريكي في قيادته لسياسة التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي. وهذا لا يعني أن حميدتي ضد التطبيع بل كثيرا ما يرسل رسائل الغزل لإسرائيل، لكن حميدتي وقواته لا يتمتعون بثقة الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها قواتا لها ماضٍ يصعب تسويقها معه. لكن سبق بأنّ مسؤولين بالجهاز الاستخباراتي الإسرائيلي، بحميدتي في الخرطوم في 2021. وعزز ذلك اللقاء الهواجس بأنّ حميدتي يعمل على إقامة علاقات مستقلة مع الإسرائيليين من أجل تنفيذ أجندته السياسية الخاصة داخل السودان كما يفعل خصمه البرهان.
السؤال ماذا لو وصلت قيادة الجيش إلى قناعة بأن قوات الدعم السريع غدت مهددا حقيقيا لأمن واستقرار الدولة السودانية، ومن مهام الجيش ذات الأولوية الكبرى الحفاظ على أمن واستقرار البلاد؟.
( الشرق القطرية )