تسريبات “معاريف” حول التعاون الإعلامي الإسرائيلي-السعودي خلال “طوفان الأقصى”: تحليلٌ متعدد الأبعاد
في ظلِّ تصاعد وتيرة التطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، كشفت تسريباتٌ لصحيفة “معاريف” الإسرائيلية في فبراير 2025 عن تعاونٍ غير مسبوقٍ بين جهاتٍ أمنية إسرائيلية ووسائل إعلام سعودية خلال معركة “طوفان الأقصى” (أكتوبر 2023). وفقًا للتسريبات، استغلَّ الجانب الإسرائيلي منصاتٍ إعلامية سعودية لنشر معلوماتٍ استخباراتية و”تشويه سرديات الخصوم”، في محاولةٍ لتحقيق أهدافٍ عسكرية وسياسية متشابكة. هذا التقرير يُحلِّل الأبعادَ الاستراتيجية لهذا التعاون، وانعكاساته على الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والتحوُّلات في المشهد الإعلامي العربي.
السياق التاريخي: من التطبيع السري إلى الحرب الإعلامية المعلنة
قبل “طوفان الأقصى”، شهدت العلاقات السعودية-الإسرائيلية تحوُّلاتٍ جذريةً تمهيدًا لاتفاق تطبيعٍ مُحتمل، حيثُ ركَّزت الرياضُ على ملفاتٍ اقتصاديةٍ وأمنيةٍ مشتركة مثل مواجهة النفوذ الإيراني. لكنَّ الهجومَ الفلسطينيَّ المُفاجئَ في أكتوبر 2023 وضعَ هذه الخططَ على محكٍّ حقيقي، خاصةً مع تصاعد الدعم الشعبي العربي للمقاومة. هنا، برزَ دورُ الإعلام كساحةٍ حاسمةٍ لإدارة الصراع، حيثُ سعت إسرائيلُ لاحتواء التداعيات السياسية عبر توظيف منصاتٍ عربية “موالية”.
اللافت أنَّ “معاريف” كشفت أنَّ التعاونَ الإعلاميَّ لم يقتصر على فترة الحرب، بل امتدَّ ليشملَ تبادلَ معلوماتٍ استخباراتيةٍ حول تحركاتِ فصائل المقاومة في لبنان واليمن. فعلى سبيل المثال، نَقلت قناة “الحدث” السعودية تفاصيلَ اغتيال هاشم صفي الدين (نائب الأمين العام لحزب الله) قبل تأكيدها رسميًا من الجيش الإسرائيلي بثلاثة أسابيع. هذه الآلية سمحت لإسرائيل بنشر روايتها دون تحمُّلِ تبعاتِ الكشف المباشر، مع تعزيزِ مصداقيةِ المصادر السعودية “المحايدة” ظاهريًا.
الآليات التشغيلية: كيف تمَّ توظيف الإعلام السعودي؟
اعتمد التعاونُ على ثلاث آليات رئيسية:
- نشر المعلومات الاستخباراتية: عبرَ نقل تفاصيلَ عن عملياتٍ عسكرية إسرائيلية عبر وسائل إعلام سعودية، مثل اغتيال قادة في حزب الله أو تدمير أنفاق حماس، مع إضفاءِ صبغةٍ “موضوعية” عبرَ نسبِ المعلومات إلى “مصادر سعودية”.
- تشويه سرديات المقاومة: من خلال التركيز على مصطلحاتٍ مثل “الإرهاب” و”المسلحين” بدلًا من “المقاومة”، وربط عمليات طوفان الأقصى بإيران لخلقِ انطباعٍ بالتبعية الإقليمية.
- تضخيم الخلافات الداخلية الفلسطينية: عبرَ تسليط الضوء على انتقاداتٍ لقيادة حماس من قبلِ شخصياتٍ عربية، وترويجِ روايةِ “المغامرة غير المحسوبة”.
وفقًا لتحليل “هآرتس”، فإنَّ هذه الآلياتَ اعتمدت على شبكةٍ من الوسطاء والصحفيين العاملين في كلا البلدين، حيثُ تُترجمُ المعلوماتُ من العبرية إلى العربية قبل نشرها، مما يُجنِّبُ إسرائيلَ الاتهامَ المباشرَ بنشرِ الدعاية.
التحليل الإعلامي: مقارنة الخطاب السعودي قبل الحرب وبعدها
قبل أكتوبر 2023، اتسم الخطابُ الإعلامي السعودي تجاه القضية الفلسطينية بالحيادِ الظاهري، مع تجنُّبِ الهجوم المباشر على إسرائيل. لكنَّ معركةَ “طوفان الأقصى” كشفت تحوُّلًا جذريًا، حيثُ ركَّزت قناة “العربية” و”الشرق الأوسط” على:
- تضخيم الخسائر الفلسطينية: عبرَ بثِّ لقطاتٍ مُكثَّفةٍ للدمار في غزة مع تجاهلِ المقاومة العسكرية.
- ترويج الرواية الإسرائيلية حول “الدفاع عن النفس”: من خلال مقابلاتٍ مع محللين عسكريين إسرائيليين دونَ موازنةٍ مع الرأي الفلسطيني.
- تشويه رمزية طوفان الأقصى: عبرَ وصف الهجوم بأنه “مغامرة حماسية كلفت الفلسطينيين آلاف الضحايا”.
في المقابل، التزمت وسائلُ إعلام محور المقاومة (مثل قناة الأقصى والمنار) بخطابٍ مُوحَّدٍ يعلي من شأنِ الإنجازات العسكرية، لكنَّ تأثيرها بقيَ محدودًا أمامَ الغطاء السعودي-الإسرائيلي المشترك.
دراسة حالة: اغتيال السنوار واستغلال الإعلام السعودي
تكشف حادثة اغتيال يحيى السنوار (زعيم حماس) في ديسمبر 2023 كيفَ تمَّ توظيفُ التعاون الإعلامي لخدمة الأجندة الإسرائيلية. فقبلَ الإعلان الرسمي عن العملية، نقلت “الحدث” السعودية تفاصيلَ الاغتيال مستندةً إلى “مصادر أمنية”، مما منحَ الروايةَ الإسرائيليةَ مصداقيةً إضافيةً أمام الرأي العام العربي. الأهمُّ من ذلك، أنَّ الصحفَ السعودية ربطت بين السنوار و”المخططات الإيرانية”، في محاولةٍ لقطعِ الطريق على أيِّ تعاطفٍ مع القضية الفلسطينية.
التداعيات السياسية: من التطبيع إلى الحرب النفسية
أدَّى هذا التعاونُ إلى تفاقمِ الانقسامِ العربي، حيثُ وجدت دولُ محور المقاومة نفسَها في مواجهةٍ مع خطابٍ إعلاميٍّ معادٍ مدعومٍ بإمكانياتٍ سعوديةٍ ضخمة. كما عزَّزَ من شرعيةِ الموقفِ الإسرائيلي دوليًا، خاصةً مع استخدامِ وسائلَ إعلاميةٍ عربيةٍ لنقلِ الرواية الصهيونية دونَ حاجةٍ لإسرائيلَ إلى التصريح مباشرةً.
من جهةٍ أخرى، كشفت التسريباتُ عن خلافاتٍ داخلَ المؤسسة الإسرائيلية، حيثُ انتقدَ بعضُ المسؤولين اعتمادَ تل أبيب على الرياض في إدارةِ الحرب الإعلامية، معتبرينَ أنَّ ذلكَ يُعرِّضُ المصالحَ الإسرائيليةَ للابتزاز المستقبلي.
ردود الفعل: من الإنكار إلى التبرير
- الجانب السعودي: نفتْ السلطاتُ السعوديةُ أيَّ تعاونٍ رسمي، لكنَّ تقاريرَ أشارت إلى ضغوطٍ أمريكيةٍ على الرياضِ لاستمرارِ التنسيقِ الإعلامي كجزءٍ من صفقةِ التطبيع المُعلَّقة.
- الفصائل الفلسطينية: وصفت حماسُ التعاونَ بـ”الخيانة العظمى”، داعيةً إلى مقاطعةِ الوسائلِ الإعلاميةِ السعودية.
- المجتمع الدولي: أدانت منظماتٌ حقوقيةٌ استخدامَ الإعلامِ كأداةِ حربٍ نفسية، بينما تجاهلتْ الأممُ المتحدةُ الإشارةَ إلى الانتهاكاتِ الإعلاميةِ في تقاريرها.
الأبعاد الاستراتيجية: إسرائيل تُعيد تعريف قواعد اللعبة
يُمثِّلُ هذا التعاونُ نقلةً نوعيةً في الاستراتيجية الإسرائيلية، التي انتقلتْ من الاعتمادِ على المنصاتِ الغربية إلى اختراقِ الإعلامِ العربي ذي المصداقية النسبية. وقد نجحتْ في:
- تقويضِ الوحدةِ الفلسطينية: عبرَ تسريبِ وثائقَ مُزيَّفةٍ عن خلافاتٍ داخليةٍ في حماس.
- تضليلِ الرأي العام العالمي: بنشرِ رواياتٍ عن “استخدام المدنيين دروعًا بشرية” عبرَ قنواتٍ عربية.
- تحييدِ الدورِ المصري: عبرَ تشويهِ صورةِ الوساطةِ المصريةِ وربطِها بـ”التواطؤ”.
الخاتمة: الإعلام كساحةٍ للحرب الوجودية
تكشفُ تسريباتُ “معاريف” أنَّ معركةَ طوفان الأقصى لم تكنْ صراعًا عسكريًا فحسب، بل حربًا إعلاميةً أعادتْ تشكيلَ تحالفاتِ المنطقة. فبينما نجحتْ إسرائيلُ في توظيفِ الإعلامِ السعودي لتمريرِ أجندتها، فإنَّ التداعياتَ الأخلاقيةَ لهذا التعاونِ ستظلُّ تُلقي بظلالها على مصداقيةِ الإعلامِ العربي وقدرتِه على تمثيلِ القضايا العادلة. السؤالُ الأكبر: هل ستتحوَّلُ المنصاتُ الإعلاميةُ إلى أدواتٍ دائمةٍ في صراعاتِ الشرق الأوسط، أم أنَّ الصحوةَ الشعبيةَ ستفرضُ معادلاتٍ جديدةً؟