أزمة دبلوماسية متصاعدة: وزير العدل الفرنسي يدعو لاستدعاء السفير من الجزائر وإلغاء التأشيرات الدبلوماسية
تصاعدت حدة التوتر الدبلوماسي بين فرنسا والجزائر بشكل غير مسبوق بعد دعوة وزير العدل الفرنسي جيرالد دارمانان إلى استدعاء سفير بلاده من الجزائر وإلغاء امتيازات التأشيرات الدبلوماسية للمسؤولين الجزائريين. جاء ذلك على خلفية رفض الجزائر استلام قائمة تضم 60 مواطناً جزائرياً تسعى فرنسا لترحيلهم، في تطور جديد يهدد بتعميق الأزمة بين البلدين ويفتح الباب أمام تساؤلات حول مستقبل العلاقات الثنائية.
خلفية الأزمة وتطوراتها
شهدت العلاقات الفرنسية الجزائرية تصعيداً جديداً بعد رفض الجزائر رسمياً تسلم قائمة تضم 60 مواطناً جزائرياً ترى فرنسا ضرورة إبعادهم، وهو ما اعتبرته باريس تحدياً لسيادتها وسياساتها الداخلية. وفي رد فعل سريع، دعا وزير العدل الفرنسي جيرالد دارمانان إلى اتخاذ تدابير إضافية للتحرك فوراً في مواجهة الجزائر.
وخلال مقابلة على قناة “تي إف 1” الفرنسية، لم يعتبر دارمانان أن رفض الجزائر استعادة مواطنيها المستهدفين بإجراءات الطرد “إهانة”، لكنه أكد تأييده الكامل لـ”الرد التدريجي” الذي يدافع عنه زميله وزير الداخلية برونو روتايو. ودعا دارمانان صراحة إلى استدعاء السفير الفرنسي لدى الجزائر، وهو قرار يعود اتخاذه لرئيس الدولة إيمانويل ماكرون، كما طالب بإنهاء امتيازات جوازات السفر الدبلوماسية التي تمنح المسؤولين الجزائريين الحق في القدوم إلى فرنسا للعلاج أو التسوق.
الإجراءات الفرنسية الأولية
بدأت بالفعل المرحلة الأولى من الرد الفرنسي مساء الإثنين 17 مارس 2025، مع إعلان تعليق اتفاقية 2007 التي تمنح حاملي جوازات السفر الدبلوماسية الجزائرية والجوازات الخاصة بالمهام الرسمية إعفاءً من التأشيرات للدخول إلى فرنسا.
وقال وزير الداخلية الفرنسي برونو روتايو في تصريح لإذاعة “فرانس انتر“: “يؤسفني أن الجزائر ترفض تطبيق القانون الدولي. كما قررت اللجنة المشتركة بين الوزارات برئاسة رئيس الوزراء، سيتم البدء في الرد التدريجي”. وأيد وزير العدل جيرالد دارمانان هذا الإجراء ودعا إلى ضرورة استدعاء سفير بلاده بالجزائر للتشاور.
موقف الجزائر وأسباب الرفض
أكدت الجزائر أنها ترفض القائمة الفرنسية شكلاً ومضموناً. فمن الناحية الشكلية، اعتبرت الجزائر أنه لا يمكن لفرنسا أن تقرر بشكل أحادي إعادة النظر في القنوات الدبلوماسية المعتادة لمعالجة حالات الإبعاد.
ودعت الجزائر الطرف الفرنسي إلى احترام الإجراءات المتفق عليها، والتي تعتمد على التنسيق بين المقاطعات الفرنسية والقنصليات الجزائرية المختصة، مع دراسة كل حالة على حدة. كما أكدت الجزائر أن بروتوكول اتفاق عام 1994 لا يمكن تطبيقه بمعزل عن اتفاقية العلاقات القنصلية لعام 1974، التي تظل الإطار المرجعي الرئيسي في المجال القنصلي بين البلدين، مشددة على ضرورة ضمان احترام حقوق الأشخاص المعنيين بتدابير الإبعاد.
سياق تاريخي للتوتر المتصاعد
تجدر الإشارة إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي يطلب فيها وزير العدل الفرنسي سحب السفير للتشاور، إلا أن الرئيس إيمانويل ماكرون رفض حتى الآن اتخاذ هذه الخطوة. وتأتي هذه الأزمة في سياق علاقات متوترة أصلاً بين البلدين، حيث سبق للجزائر أن سحبت سفيرها من باريس في يوليو الماضي، احتجاجاً على تغيير موقف فرنسا من قضية الصحراء الغربية ودعمها لمقترح الحكم الذاتي المغربي.
ورغم ذلك، لم تلجأ باريس في ذلك الوقت إلى مبدأ المعاملة بالمثل ولم تستدع سفيرها للتشاور، كما أن ماكرون لم يستجب لطلبات مسؤولين وسياسيين فرنسيين طالبوا منذ بداية الأزمة بالتصعيد واستدعاء السفير.
ردود الفعل السياسية في فرنسا
دخلت زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان على خط الأزمة، مطالبة الحكومة الفرنسية بـ”التحرك الفوري عبر تجميد منح التأشيرات، ووقف المساعدات المالية، وحتى إلغاء اتفاقيات 1968 التي تمنح الجزائريين امتيازات خاصة في الإقامة والعمل بفرنسا”.
وانتقد دارمانان مقترحات لوبان، قائلاً: “مبدأ الرد التدريجي هو أن يكون تدريجيًا. نرى أن السيدة لوبان لم تحكم البلاد من قبل، فهي لا تدرك كيف تدار العلاقات مع دولة كبيرة”. كما لم يستبعد دارمانان إعادة النظر في اتفاقيات 1968، قائلاً: “لكن لننتظر رد الجزائر”، وأضاف: “قبل أن نمس المواطنين العاديين، أصدقاءنا، علينا أولاً استهداف القادة السياسيين والاقتصاديين”.
الدعوة للحوار رغم التصعيد
رغم “لحظات التوتر المؤسفة جدًا”، كما عبر دارمانان، دعا وزير العدل الفرنسي إلى “الحوار” مع الجزائر، هذا “البلد الكبير” الذي “تهمنا حدوده”. وأضاف: “الدبلوماسية تعني التحدث إلى أشخاص لا نتفق معهم”، مشدداً على أنه “سيكون من الضروري في يوم من الأيام إقامة علاقة واتفاق مع الجزائر”. ثم استدرك قائلاً: “لكن هذا لا يعني أننا يجب أن نكون ساذجين”.
السياق السياسي الفرنسي الداخلي
يرى محللون أن هذا التصعيد يأتي في سياق سيطرة اليمين المتطرف على سلطة القرار في فرنسا، مع اقتراب انتخابات 2027، وفي ظل انشغال الرئيس ماكرون بأزمات أخرى، خاصة الأزمة الأوكرانية.
وتشير صحيفة “الفجر” الجزائرية إلى أن “باريس، التي أصبح لا يظهر لحاكمها أي أثر إلا ما يتلقاه من صفعات في الأزمة الأوكرانية، تعتقد بأن ما اتخذته من إجراءات، عن طريق ممتهني السياسة الجدد عندها، يمكن أن يصيب الجزائر بالذعر، رغم أن هذه الأخيرة أكدت في العديد من المرات أنها ترفض بشكل قاطع لغة التهديد والوعيد والمهل ولكافة أشكال الابتزاز”.
تداعيات محتملة وآفاق العلاقات المستقبلية
تثير هذه الأزمة تساؤلات حول مستقبل العلاقات الفرنسية الجزائرية، وما إذا كانت ستؤدي إلى قطيعة كاملة بين البلدين، أم ستكون فرصة لإعادة النظر في العلاقات الثنائية وصياغتها على أسس جديدة تحترم سيادة البلدين ومصالحهما المشتركة.
ويبقى السؤال المطروح: هل سيستجيب ماكرون لدعوة دارمانان باستدعاء السفير الفرنسي من الجزائر، مما قد يعمق الأزمة بين البلدين، أم سيفضل الحفاظ على قنوات الاتصال مفتوحة مع الجزائر رغم التوتر الحالي؟ خاصة وأن تجارب سابقة تظهر أن الرئيس الفرنسي يميل إلى تجنب التصعيد مع الجزائر، حتى عندما بادرت الأخيرة بسحب سفيرها.
خيارات التصعيد وآفاق التسوية
تملك فرنسا عدة خيارات تصعيدية قد تلجأ إليها في حال استمرار الأزمة، منها إعادة النظر في اتفاقيات 1968 التي تنظم العلاقات بين البلدين، أو تقليص المساعدات والتعاون في مجالات مختلفة. في المقابل، تؤكد الجزائر موقفها الرافض للضغوط والإملاءات، وتصر على احترام السيادة وقواعد التعامل الدبلوماسي المتعارف عليها.
ويبدو أن أي حل مستدام لهذه الأزمة يتطلب حواراً جاداً بين البلدين يراعي مصالح الطرفين ويحترم خصوصياتهما وسيادتهما، خاصة في ظل الروابط التاريخية والاقتصادية والثقافية المعقدة التي تجمع بينهما، والتي تجعل من القطيعة الكاملة خياراً مكلفاً للطرفين.
مستقبل الأزمة
تمثل الأزمة الحالية بين فرنسا والجزائر امتداداً لسلسلة من التوترات الدبلوماسية المتراكمة بين البلدين، وتعكس عمق الخلافات في ملفات حساسة تتجاوز قضية المهاجرين إلى قضايا سياسية واقتصادية وتاريخية أكثر تعقيداً. وفي ظل التحديات الإقليمية والدولية المتزايدة، يبقى السؤال: هل ستتمكن البلدان من تجاوز هذه الأزمة والعودة إلى طاولة الحوار، أم أن المستقبل يحمل المزيد من التصعيد والقطيعة؟











