ممر داوود الإسرائيلي: تحليل استراتيجي وتأثيرات محتملة
في الأشهر الأخيرة، وبعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، برزت فكرة “ممر داوود” الإسرائيلي في الخطاب الاستراتيجي والسياسي لتل أبيب كجزء من محاولات إعادة تشكيل النفوذ الجيوسياسي الإسرائيلي في بلاد الشام.
ورغم أن الإسرائيليين لم يعلنوا رسمياً عن هذا المشروع، إلا أن العديد من المحللين العسكريين والسياسيين أشاروا إلى أن هذا الممر قد يكون جزءاً من استراتيجية إسرائيلية جديدة تهدف إلى ربط شمال سوريا، الخاضع للسيطرة الكردية المدعومة من الولايات المتحدة، بإسرائيل عبر طريق بري مستمر. هذه الخطة تهدد بتقسيم سوريا إلى مناطق عرقية وطائفية، تشمل الأكراد والدروز والعلويين في مناطق معينة، بالإضافة إلى دولة سنية بقيادة أحمد شرع في مناطق ذات الأغلبية السنية في وسط وشمال سوريا.
ما هو ممر داوود؟
ممر داوود هو مشروع إسرائيلي مزعوم لإنشاء ممر بري يمتد من مرتفعات الجولان السورية المحتلة، مرورا بجنوب سوريا، وصولا إلى نهر الفرات في العراق. ويعبر هذا المسار الافتراضي عبر محافظات درعا والسويداء والتنف ودير الزور، بالإضافة إلى منطقة البوكمال الحدودية العراقية السورية، مما يوفر لإسرائيل ممرًا بريًا استراتيجيًا يصل إلى قلب غرب آسيا.
من الناحية الأيديولوجية، يرتكز ممر داوود على رؤية “إسرائيل الكبرى”، وهي مفهوم توسعي ينسب إلى مؤسس الصهيونية، ثيودور هرتزل، والذي يستند إلى خريطة توراتية تمتد من نهر النيل في مصر إلى نهر الفرات في العراق. هذه الرؤية تمثل طموحًا في السيطرة على سوريا والعراق ومصر، وهي دول محورية في التراث التوراتي والهيمنة الإقليمية.
الأساس الاستراتيجي والتاريخي لممر داوود
من الناحية الاستراتيجية، يتماشى ممر داوود مع سياسة إسرائيل الراسخة في بناء تحالفات مع الأقليات الإقليمية مثل الأكراد والدروز والعلويين. وقد اعتمدت إسرائيل على هذه السياسة منذ ستينيات القرن الماضي في دعم الحكم الذاتي الكردي، وهو ما يساهم في تحقيق موازنة للعداء التقليدي بين إسرائيل والدول العربية. هذه التحالفات، في ظل الظروف الحالية، توفر لإسرائيل فرصة لتعزيز نفوذها الإقليمي تحت ستار الحماية الأمنية لهذه الأقليات.
إن رؤية ممر داوود تجسد أيضًا “مبدأ المحيط”، وهي سياسة انتهجتها إسرائيل في الماضي للتودد إلى القوى غير العربية مثل إيران وتركيا في عهد الشاه، وكذلك إقامة تحالفات مع الأقليات العرقية والطائفية في الدول المجاورة. هذا التوجه يعكس استراتيجية إسرائيلية تهدف إلى اختراق الجدار العربي المحيط بإسرائيل، بما يعزز نفوذها ويعطيها القدرة على إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في المنطقة.
التحولات في سوريا وتأثيرها على ممر داوود
أدى انهيار نظام بشار الأسد وصعود هيئة تحرير الشام (HTS) بزعامة أحمد الشرع إلى تسريع وتيرة التشرذم الداخلي في سوريا. ومع انهيار السلطة المركزية، أبرمت حكومة أحمد الشرع اتفاقيات مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة، مما أدى إلى تعزيز الحكم الذاتي الكردي في المناطق الخاضعة لسيطرتهم. كما حافظت السويداء على استقلالها الإداري للطائفة الدرزية، وهو ما يعكس حالة من الاستقلالية الطائفية قد تنذر بترسيخ الانقسامات في سوريا.
من جهة أخرى، تشعر الأقليات العرقية والطائفية، وخاصة العلويين، بقلق بالغ حيال السلطة المركزية في دمشق، مما دفعهم إلى البحث عن ترتيبات للسلطة المحلية. وفي هذا السياق، تراقب إسرائيل الوضع عن كثب، حيث ترى في هذا الانقسام فرصة لتعزيز نفوذها في المنطقة، خاصة في ظل تحالفها المستمر مع الأكراد في العراق. هذه الديناميكيات تجعل من ممر داوود أكثر من مجرد ضرورة لوجستية، بل مشروعًا سياسيًا طموحًا.
مخاطر تقسيم سوريا: تقسيم عرقي وطائفي
تعد خطة ممر داوود تهديدًا حقيقيًا لوحدة سوريا، حيث قد تؤدي إلى تقسيم البلاد إلى مناطق عرقية وطائفية مستقلة. من خلال ربط شمال سوريا بالأكراد، ودعم الأقليات العرقية والطائفية مثل الدروز والعلويين في مناطق أخرى، قد يتم تعزيز هذه الانقسامات على الأرض. في الوقت ذاته، تشير التقديرات إلى أن هذه الخطة قد تتضمن إقامة دولة سنية بقيادة أحمد شرع في المناطق ذات الأغلبية السنية في وسط وشمال سوريا، ما يعزز من التشرذم الداخلي ويسهم في خلق كيانات منفصلة.
الموقف الإقليمي والدولي تجاه ممر داوود
من وجهة نظر تل أبيب، يمثل جنوب سوريا الآن فراغًا استراتيجيًا. فالجيش السوري ضعيف، وتركيا مشغولة في معضلاتها الداخلية، وإيران منهكة بسبب استراتيجياتها في المنطقة. هذا الفراغ في السلطة يوفر فرصة لإسرائيل لفرض هيمنتها العسكرية والسياسية على هذه المنطقة، إذا استمرت الديناميكيات الإقليمية في تفضيل الحكم اللامركزي الضعيف.
ورغم تقليص الولايات المتحدة لوجودها العسكري في المنطقة، إلا أنها تظل ملتزمة باحتواء إيران، وتعتبر القواعد العسكرية الأمريكية في سوريا، مثل قاعدة التنف على الحدود السورية العراقية، نقطة محورية في قطع ما يسمى بالجسر البري الإيراني الممتد من طهران إلى بيروت. بينما يظل ممر داوود ليس سياسة أميركية صريحة، فإن الولايات المتحدة قد تدعم المبادرات الإسرائيلية التي تتماشى مع أهدافها الاستراتيجية في تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة.
التحديات والآثار المحتملة لممر داوود
إقامة ممر داوود قد يثير العديد من التحديات. فإسرائيل تسعى إلى تفكيك سوريا إلى كيانات اتحادية صغيرة، ما يعني أن المشروع سيؤدي إلى تقسيم البلاد إلى مناطق طائفية وعرقية، وهو ما يهدد بتفاقم حالة عدم الاستقرار في المنطقة. في الوقت ذاته، تعارض تركيا بشكل كبير أي تقسيم لسوريا من خلال تعزيز الحكم الكردي.
على الصعيد العسكري، يوفر ممر داوود لإسرائيل عمقًا استراتيجيًا يمكنها من قطع الطرق البرية التي تربط إيران بحزب الله، كما يسمح لها بتدفق الأسلحة والدعم الاستخباراتي إلى حلفائها الأكراد. اقتصاديًا، يفتح المشروع إمكانيات لخطوط نقل النفط من كركوك أو أربيل إلى حيفا، متجاوزًا تهديدات الطرق التركية.
خريطة ممر داوود المقترح
إذا تم تنفيذ هذا المشروع، قد يغير ممر داوود بشكل جذري خرائط النفوذ في المنطقة. هذه الخريطة سترسم خطًا يربط إسرائيل بالأكراد في شمال سوريا والعراق، ويمر عبر مناطق درعا والسويداء في جنوب سوريا، وصولًا إلى منطقة البوكمال الحدودية، وهو ما قد يؤدي إلى إعادة رسم التحالفات في المنطقة وفقا لمصالح إسرائيلية استراتيجية.