أزمة سيولة حادة تضرب سوق الدين المصري.. 64% عجز في الطرح الأخير لأذون الخزانة وارتفاع الفائدة لمستويات تاريخية
في مشهد اقتصادي ينذر بتداعيات خطيرة على استقرار المالية العامة، فشل البنك المركزي المصري في جمع سوى ثلث السيولة المستهدفة من عطاء أذون الخزانة المحلية يوم الأحد، حيث لم تتجاوز حصيلة البيع 25.2 مليار جنيه من أصل 75 ملياراً كان مقرراً جمعها، وذلك تحت ضغط غير مسبوق من المستثمرين الذين رفعوا سقف مطالبهم لعوائد وصلت إلى 32%، في ظل تسارع معدلات التضخم وتراجع شهية المخاطرة لدى البنوك والمؤسسات المالية.
تفاصيل العطاء: أزمة ثقة وسيولة خانقة
حجم العجز: بلغت نسبة العجز في السيولة المحصلة 64% مقارنة بالمستهدف، وهو ما يعكس حجم القلق لدى المستثمرين من استمرار الضغوط التضخمية وعدم اليقين بشأن استقرار الجنيه المصري.
قفزة في الفائدة: ارتفع متوسط سعر الفائدة على أذون الخزانة لأجل 3 أشهر إلى 28.83% مقابل 28.19% في العطاء السابق، بينما صعد متوسط العائد على أذون 9 أشهر إلى 26.64% من 26.36%، وسط طلبات بعوائد وصلت حتى 32% من بعض المستثمرين.
خلفيات السوق: لماذا هذا التراجع الحاد في الإقبال؟
ضغوط التضخم: تسارع معدل التضخم السنوي في مدن مصر إلى 13.9% في أبريل مقابل 13.6% في مارس، وهو ما يضغط على توقعات المستثمرين بشأن العوائد الحقيقية ويزيد من مخاوف تآكل القوة الشرائية.
تفضيل البنوك للودائع: تفضل البنوك استثمار فوائض السيولة في الودائع الأسبوعية ذات العائد الثابت (27.75%) والتي لا تخضع للضرائب، على الدخول في أذون الخزانة التي تتحمل ضرائب، ما يفسر تراجع الإقبال على العطاءات الحكومية.
تأثير الأجانب: ارتفاع العوائد يجذب الاستثمار الأجنبي غير المباشر، لكنه يرفع أيضاً من مخاطر خروج الأموال الساخنة بشكل مفاجئ، ما قد يضغط على الجنيه المصري في ظل نظام سعر الصرف الحر.
رسائل عاجلة للحكومة:
“استمرار ارتفاع أسعار الفائدة على أدوات الدين يهدد بتفاقم عجز الموازنة ويزيد من أعباء خدمة الدين العام، ما يحد من قدرة الحكومة على تمويل الإنفاق التنموي ويضغط على استقرار العملة المحلية”.
يرى خبراء أن إصرار المستثمرين على عوائد مرتفعة يعكس فقدان الثقة في قدرة الحكومة على كبح جماح التضخم وتحقيق استقرار مالي سريع، ويضع صانع القرار أمام خيارين أحلاهما مر: إما الاستجابة لمطالب السوق وتحمل تكلفة دين باهظة، أو مواجهة شح السيولة وتراجع تمويل الخزانة العامة.
يحذر محللون من أن استمرار هذا الاتجاه قد يؤدي إلى مزيد من الانكماش في السيولة بالسوق، ما ينعكس سلباً على معدلات الاستثمار والنمو ويزيد من احتمالات الركود الاقتصادي.
أدوات الدين بين مطرقة العجز وسندان الإصلاح:
أذون وسندات الخزانة هي الأداة الرئيسية التي تعتمد عليها وزارة المالية لسد فجوة العجز بين الإيرادات والنفقات، ويتم طرحها بشكل دوري لجذب السيولة من السوق المحلية.
ارتفاع العائد: كل نقطة مئوية زيادة في الفائدة تكلف الموازنة عشرات المليارات سنوياً، ما يفاقم أزمة الديون ويضغط على أولويات الإنفاق الحكومي.
ما هي أذون الخزانة؟
أذون الخزانة هي أداة دين حكومية قصيرة الأجل، تصدر بآجال تتراوح بين ثلاثة أشهر وسنة واحدة، وتباع غالبا بسعر أقل من قيمتها الاسمية، بحيث يحصل المستثمر على الفائدة عند استرداد القيمة الكاملة عند الاستحقاق. وتتميز أذون الخزانة بأنها منخفضة المخاطر وعالية السيولة ويمكن تداولها في الأسواق الثانوية، وتستخدمها الحكومات بشكل رئيسي لجمع السيولة العاجلة لسد عجز الموازنة أو تمويل النفقات الطارئة. في مصر، يطرح البنك المركزي أذون الخزانة أسبوعيا نيابة عن وزارة المالية، وتعد البنوك المحلية أكبر المستثمرين فيها، إلى جانب بعض المؤسسات المالية والمستثمرين الأجانب.
انتقادات حادة
رغم قيام البنك المركزي المصري بتخفيض أسعار الفائدة الرئيسية بمقدار 225 نقطة أساس مؤخرا لتصل إلى 25 في المئة للإيداع و26 في المئة للإقراض، إلا أن السوق لم تستجب بالقدر الكافي، وبقيت عوائد أذون الخزانة مرتفعة، ما يعكس استمرار مخاوف المستثمرين من التضخم وتدهور القوة الشرائية للجنيه المصري. وتفضل البنوك المحلية توجيه السيولة إلى الودائع الأسبوعية الأعلى عائدا والأقل مخاطرة، على حساب الاستثمار في الأذون الخاضعة للضرائب، ما يزيد من صعوبة تغطية العطاءات الحكومية.
هذا المشهد يثير انتقادات واسعة حول جدوى السياسات المالية والنقدية الحالية، إذ أن استمرار ارتفاع تكلفة خدمة الدين يهدد بتفاقم عجز الموازنة، ويحد من قدرة الحكومة على تمويل برامج التنمية والاستثمار، ويزيد من مخاطر الركود الاقتصادي. كما أن تراجع شهية المستثمرين المحليين والأجانب لأدوات الدين قصيرة الأجل يفرض على الحكومة مراجعة عاجلة لسياسات إدارة الدين، وتقديم حوافز وضمانات جديدة تعيد الثقة للسوق وتضمن استدامة التمويل.
ماذا بعد؟ توصيات عاجلة للحكومة
ضرورة مراجعة سياسات الدين: على الحكومة إعادة النظر في هيكل أدوات الدين وتقديم حوافز ضريبية أو تيسيرات لجذب البنوك والمستثمرين المحليين، مع تعزيز الثقة في استقرار الاقتصاد الكلي.
تحفيز الاستثمار الحقيقي: لا بد من توجيه السيولة نحو القطاعات الإنتاجية وليس فقط أدوات الدين، مع دعم القطاع الخاص وتسهيل بيئة الأعمال.
تعزيز الشفافية: المطلوب مزيد من الشفافية في إدارة المالية العامة وتقديم بيانات دورية حول خطط الإصلاح والإجراءات المتخذة لاحتواء التضخم ودعم الجنيه.
خلاصة: ناقوس خطر يستدعي تحركاً سريعاً
ما حدث في عطاء أذون الخزانة الأخير ليس مجرد رقم سلبي في دفتر المالية العامة، بل هو ناقوس خطر يتطلب تحركاً حكومياً عاجلاً لإعادة الثقة إلى السوق، وضبط التوازن بين تكلفة الدين واستدامة النمو. استمرار هذا الاتجاه قد يعصف بمكتسبات الاستقرار المالي ويهدد بتداعيات أعمق على الاقتصاد والمجتمع.
أزمة أذون الخزانة الأخيرة في مصر لم تعد مجرد مؤشر على تحد تمويلي عابر، بل باتت ناقوس خطر يهدد استقرار المالية العامة ويضع الحكومة أمام تحديات معقدة تتطلب حلولا مبتكرة وسريعة. فمع استمرار تصاعد التضخم وارتفاع تكلفة الاقتراض وتراجع الإقبال على أدوات الدين، يصبح ضبط التوازن بين السيولة وتكلفة الدين واستدامة النمو الاقتصادي أولوية قصوى لصناع القرار في المرحلة المقبلة.