بقلم :أحمد عز الدين
لا أريد أن أخوض في مفردات هذا السيل من الأخبار والتعليقات ، التي تضخ في الرأي العام قناعة زائفة بأن ترامب قد خرج من معادلته الأثيرة ( سلام القوة ) وأنه أخرج إسرائيل من حساباته التكتيكية أو الإستراتيجية ، سواء بفتح نافذة للتفاوض مع إيران ، أو القبول بوقف لإطلاق النار مع الجيش اليمني ، أو بدفع شركتين أمريكيتين من العسكريين المتقاعدين لتوزيع بعض فوائض الطعام على الذين يحتضرون جوعا في غزة ، ذلك أن الترويج لمثل هذه القناعة إنما يعني تخفيض درجة الإحساس الوطني والإقليمي بالخطر ، بينما تتأهب الإستراتيجية الأمريكية لوثبة جديدة في الإقليم .
- لقد أعلنت إسرائيل حالة تعبئة لقوات الاحتياط ، تحت دعوى رفع سقف التصعيد العسكري ضد حماس ، مصحوبة بنشر دبابات الميركافا في أنساق دائرية فوق تباب مرتفعة في رفح ، وهي تصوب مدفعياتها نحو سيناء ، مع تمركزات عسكرية كثيفة على طول الحدود ، ومحطات رصد وتجسس في محور فيلادلفيا ، ونقل وحدات من القبة الحديدية ، إضافة إلى استمرار عمل طائرات الاستطلاع الإسرائيلية ( أيتان شحنون ) واستمرار المراقبة الجوية المباشرة بالمناطيد ، وهو ما يعني تحويل جبهة المجهود الرئيسي في اتجاه مصر ، مصحوبا بضغوط عسكرية مباشرة ومنظورة ، تلويحا بعمل عسكري يستهدف سيناء .
- لقد نشر موقع مدى مصر عن عرض سعودي قُدم للوليات المتحدة ببسط جزيرتي تيران وصنافير تحت أقدام الجيش الأمريكي ، لإقامة قاعدة عسكرية عليها ، وهو ما تلى رفضا مصريا حاسما لطلب أمريكي مزدوج بمشاركة قوات مصرية في الحرب على اليمن ، وعبور السفن الأمريكية عسكرية وتجارية في قناة السويس ، دون دفع الرسوم ، والحقيقة أن تكذيب ما نشره الموقع المذكور الذي تموله وتحتضنه أجهزة أمريكية وبريطانية بعينها ليس شأنا مصريا ، وما كان ينبغي أن يكون ، فهذا شأن طرفيه ، لأن ما كان يبدو تخليقه في فضاء الإقليم مستحيلا قد أصبح واقعا ، وما كان يبدو ضربا من الجنون أصبح يمثل العقل الخالص ، وما كان يبدو محرما أصبح تجسيدا شاذا للمشروعية .
إن تطبيق القواعد القديمة على مستجدات التوجه الإستراتيجي الأمريكي في الإقليم ، وعلى المتغيرات التي يواجهها الأمن القومي ، فوق أنه عمل عقيم فإنه عمل مضلل .
غير أن الأكثر بؤسا من ذلك هم أولئك الذين تتطوعوا للبرهنة على أن الجزيرتين لا تصلحان لإقامة قاعدة عسكرية ، تارة لأنها صخرية ولا تصلح للدبابات ، وتارة لأن أمريكا لديها ما يفيض عن حاجتها من القواعد مثل قاعدتها في جيبوتي ( التي تبعد 7 ميل بحري فقط عن قاعدة صينية ) أو أن قاعدة أمريكية فوق الجزيرتين لا علاقة لها بالملاحة في قناة السويس ، لأنها يمكن أن تمنع المرور في البحر الأحمر من اتجاه واحد .
إن من المؤكد – أولا – أن الجزيرتين ما تزالان تحت الإدارة المصرية ( بغض النظر عن موضوع السيادة الذي يستحق إعادة النظر )
ومن المؤكد – ثانيا – أن الجيش المصري كان مصدر القوة الدافعة لعدم تسليم الجزيرتين ، وذلك بسبب مشروع سابق لوضع أجهزة استشعار وكاميرات مراقبة ، فوقهما بتوافق سعودي إسرائيلي ، وقد تدخلت الولايات المتحدة لتليين الدفاعات المصرية ، ودعت إلى اجتماع ثلاثي مشترك ، تنحت مصر عن المشاركة فيه .
ومن المؤكد – ثالثا- أنه في زاوية حرجة من الحرب الجيو إستراتيجية الأمريكية ، فإن الولايات المتحدة تريد الاستحواذ على البحر الأحمر بكامله ومن جانبيه ، جنوبه وشماله ، من باب المندب وممره إلى المحيط الهندي ، ومن قناة السويس التي تملك القفل والمفتاح معا بين نصفي الكرة الأرضية الغربي والشرقي .
ومن المؤكد – رابعا – أن ما ينبغي التركيز عليه ، هو حجم التهديد الذي تمثله فرضية وجود قاعدة أمريكية فوق الجزيرتين ، ليس بالنسبة لانكشاف وحدات الجيش المصري على نحو كامل في سيناء فحسب ، وإنما أننا في هذه الحالة سنكون في مواجهة قاعدة تواجه شرم الشيخ ، التي هي في حد ذاتها قاعدة الدفاع إستراتيجيا بالدرجة الأولى عن كامل جنوب سيناء . - لقد قلت في مقال سابق أن مصر دخلت في مقدمة استدارة إستراتيجية ، كان أحد الوجوه المباشرة لها مناورة ( نسور الحضارة ) مع القوات المسلحة الصينية بما تلاها واستبقها من سعي مصري لسد فجوات كبيرة في تكنولوجيا السلاح ، تجاوزا لما فرضته أمريكا على مصر من واقع تسليحي على امتداد أربعين عاما ، سواء على مستوى سلاحها الجوي ، أو قواتها المدرعة ، أو الصاروخية ، فلم تسمح الولايات المتحدة لمصر بالحصول على أنظمة دفاع جوي بعيدة المدى ، وإنما أصرت على إبقاء دفاعاتها الجوية تحت سقف الدفاعات القصيرة والمتوسطة ، وهو ما ينطبق على السلاح الجوي حيث حظرت تزويد طائرات الأف 16 بأي أنواع من الصواريخ يزيد مداها عن 150كم ، وما ينطبق بدورة على مدافع الدبابات من طراز إبرامز ، والصواريخ المضادة للدروع ، ودون دخول في التفاصيل فإن الأمر نفسه طال كثيرا من المفاوضات مع دول الغرب ، للحصول على أسلحة تمثل أجيالا متقدمة من تكنولوجيا السلاح ، وعلى سبيل المثال فقد استمرت المفاوضات بين مصر وفرنسا عبثا لمدة 8 سنوات للحصول على غواصات من طراز ( سكوربيون ) .
لكن الشاهد أن سعي الجيش المصري كان محموما ، لسد فجوات تكنولوجية في السلاح ، فُرضت عليه لمدة أربعين عاما ، وأنه تمكن من إحراز نجاح ملموس في ذلك ، ومن الحتمي استكماله ، لتكتمل معه هذه الاستدارة الإستراتيجية ، في الوقت نفسه فقد تمكن بما ابتناه من قواعد لوجوستية وأنفاق وقواعد صواريخ ومطارات وحشد للقوات في شبه جزيرة سيناء ، من إلغاء أهم ما كان يتمتع به الجيش الإسرائيلي من ميزة نسبية عالية وفرتها له بنود اتفاقية كامب ديفيد ، وهي طول المسافة بين الحدود وقواته الضاربة والتي تبعد عن قناة السويس 217 كم ، وهي مسافة كان نقل الذخائر وحدها معها وفق التقديرات الإسرائيلية يحتاج إلى عشرة أيام كاملة . - إن جانبا رئيسيا من دانات المدفعية الثقيلة التي استبقت زيارة ترامب قد طالت دور المملكة العربية السعودية ، والحقيقة أن السعودية قد فتحت بنفسها الأجواء أمام هذه المدفعيات ، وقربت لها المسافات ، تحت وهم استحقاقها للقيادة الإقليمية ، وجلوسها منفردة على قمة النظام الإقليمي العربي ، فقد مدت يدها بقوة إلى تركيا ، بعد أن التهم الجيش التركي نصيبه من الكعكة السورية ، ونظرت إلى النظام الإرهابي في سوريا بأعلامه الطائفية بعيون مماثلة على أنه قابل لولاياتها عليه ، لكن ضربات الطيران الإسرائيلي مؤخرا بعشرين غارة جوية على دمشق وحماه ودرعا ، بما في ذلك جانب من القصر الجمهوري ، وما استبقها من جلوس الأتراك والإسرائيليين على مائدة تقاسم النفوذ في أذربيجان كما فرضه ترامب ، قد أنهى الاختبار السعودي لأي دور أو مكانة هناك ، والحقيقة أن الإخفاق السعودي في سوريا كان وجها آخر للإخفاق في لبنان ، رغم التحالف مع فرنسا التي استهدفت سواء في سوريا أو لبنان الحصول على موطئ قدم شرق المتوسط ، وقد كان أوضح مظاهره غياب القدرة على فرض انسحاب إسرائيلي من تسع نقاط في الجنوب ، وفرض موقف بعينه على سلاح المقاومة .
إننا في النهاية أمام دوائر متصلة من الإخفاق السعودي ، وأمام دور يشبه في المرايا المتتالية دور ( هاملت ) بدأ بالحرب على اليمن وانتهى برفض تمويل ما يمكن أن يبني ردعا عربيا في مواجهة العدو ، أو تمويل إعمار لغزة ، أو الصعود إل مستوى أعلى ولو معنويا في مواجهة التمدد الإسرائيلي ، فقد أصبحت السعودية في موضع مساومات بالمال ، لشراء الأمن ودون تأثير إقليمي إيجابي ، لكن الدور والمكانة والقيادة تُشترى بأشياء أُخر ، قرأ اليمنيون آياتها بإرادة صُلبة وبصوت جهور . - إن ترامب يحيط زيارته الخليجية بسحابة باردة تحجب شمس الحقيقة ، وتمد ظلالها فوق غابات مشتعلة ، وخرائط فوضى وخراب ، وحرائق قابلة للتمدد والانتشار :
أولا : في ثنايا البيان العماني عن وقف إطلاق النار بين أمريكا والجيش اليمني ، تعبير كاشف هو ( اتفق الطرفان ) وهو تعبير يكاد أن يصوغ معادلة بين قوتين متناظرتين ، ومن المؤكد أن الاتفاق هو تعبير عن اعتراف فاجع بسقوط الردع الأمريكي في شمال البحر الأحمر ، لكن ذلك لا ينبغي أن ينفي أن بُعدا آخر قد يكون مستترا في خلفيته ، وهو أن إيقاف النيران في الشمال ، هو مقدمة لنقل النيران وتكثيفها في الجنوب ، أي في الدوائر التي تتلامس مع قناة السويس وشبه جزيرة سيناء .
ثانيا : إن الحديث عن تعيين حاكم عسكري أمريكي لغزة يعطي انطباعا بأن عملية تهجير الفلسطينيين أصبحت مهمة أمريكية قبل أن تكون إسرائيلية ، والمهم في ذلك أن عملية التهجير نفسها لا يمكن لها أن تتم دون إشعال حريق أكبر كثيرا من مساحة غزة .
ثالثا : ثمة تقديرات عسكرية غربية تؤكد أن الولايات المتحدة ليست كاملة الاستعداد عسكريا لتنفيذ حرب كبيرة لفرض إستراتيجيتها في الإقليم بالقوة المسلحة ، وهي تحتاج إلى عدة شهور لإعادة بناء خرائطها وملئها بالقوات وبأعمال المخابرات المتقدمة عليها والمصاحبة لها ، ولذلك فإننا في الأغلب الأعم أمام سحابة باردة لتمرير هذه الشهور بأشكال مختلفة من التلاعب والمفاوضات والتهدئات الموقوتة.
رابعا : يتأهب ترامب لانتزاع أربع تريليونات دولار من دول الخليج مقابل تغيير اسم (الخليج الفارسي) في الخطاب الأمريكي إلى (الخليج العربي) ، ليكون الاسم مؤهلا ليتحول إلى ( الخليج الأمريكي ) ومقابل إرسال جنوده المتقاعدين باسم تقديم الغذاء والدواء للفلسطينيين بهدف حشرهم بين محوري فيلادلفيا و موراج ، وتسهيل مهمة ترحيلهم بعد تعيين حاكم أمريكي عليهم .
خامسا : تلك سحابة باردة في سماء الإقليم وضعها ترامب فوق رأس زيارته ، ولكن بقاءها لن يطول .










