في خطوة تحمل في طياتها مؤشرات اقتصادية حرجة، أعلنت هيئة قناة السويس تخفيض رسوم عبور سفن الحاويات ذات الحمولة الصافية التي تبلغ 130 ألف طن فأكثر بنسبة 15%، اعتبارًا من يوم الخميس 15 مايو الجاري. هذا الإجراء يأتي في وقت بالغ الحساسية بالنسبة لأحد أهم الشرايين البحرية في العالم، ما يطرح تساؤلات عدة حول جدوى القرار، خلفياته الاقتصادية، وتأثيره على إيرادات الدولة المصرية التي تواجه ضغوطًا مالية متزايدة.
لماذا هذا التخفيض الآن؟
من المعروف أن قناة السويس تمثل مصدرًا حيويًا للعملة الصعبة لمصر، حيث سجلت خلال السنوات الماضية إيرادات تجاوزت 8 مليارات دولار سنويًا. إلا أن التغيرات الجيوسياسية الأخيرة، لا سيما الهجمات المتكررة في البحر الأحمر من قبل جماعة الحوثي، أجبرت العديد من شركات الشحن الكبرى على تغيير مساراتها بعيدًا عن القناة، ما أدى إلى انخفاض ملموس في عدد السفن العابرة.
وفي هذا السياق، يبدو أن قرار التخفيض بنسبة 15% لا يُعبر عن رؤية توسعية لجذب السفن فقط، بل عن محاولة إسعافية لمجابهة الانخفاض في أعداد السفن العابرة، والحفاظ على ما تبقى من الحصص السوقية لقناة السويس في عالم الشحن البحري الذي يشهد تحولات عنيفة.
هل التخفيض مجدٍ أم مكلف؟
رغم أن تخفيض الرسوم قد يبدو قرارًا إيجابيًا في ظاهره لتحفيز حركة المرور وزيادة التنافسية، إلا أنه يحمل مخاطر اقتصادية كبيرة، لاسيما في ظل غياب ضمانات لعودة السفن بنفس الأعداد السابقة. في حال استمرت التوترات في البحر الأحمر، فلن تنجح هذه التخفيضات في اجتذاب السفن التي باتت تفضل الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح، رغم طول المسافة وارتفاع التكلفة.
من جهة أخرى، فإن اعتماد قناة السويس على التخفيضات المستمرة، دون استراتيجية استثمارية موازية لتحسين الخدمات اللوجستية وتوفير الأمان الملاحي، قد يؤدي إلى إضعاف قيمة القناة كممر إستراتيجي عالمي، ويقلل من قدرتها على رفع الرسوم مستقبلاً عند تحسن الأوضاع.
إيرادات تتراجع وخطة إنقاذ غير معلنة
بحسب بيانات غير رسمية، انخفضت إيرادات قناة السويس بنسبة تقارب 50% خلال الربع الأول من 2025 مقارنة بالفترة ذاتها من العام السابق. ولم تعلن الهيئة حتى الآن عن خطة طويلة الأجل لمجابهة هذا التراجع، ما يزيد من القلق حول مدى جاهزية مصر للتعامل مع تداعيات التغيرات الجيوسياسية والاقتصادية.
في الوقت الذي تخوض فيه البلاد مفاوضات مالية صعبة مع صندوق النقد الدولي، ووسط ارتفاع التضخم وتراجع الاحتياطات الأجنبية، يطرح هذا القرار إشارة سلبية عن قدرة أحد أهم موارد الدخل القومي على الصمود.
بين التحديات والفرص: ماذا بعد؟
من الواضح أن قناة السويس تمر بمرحلة دقيقة، تتطلب إعادة تقييم شاملة، لا مجرد تحفيزات مؤقتة. لا يمكن أن تستمر الاستجابة للأزمات عبر خفض الرسوم فقط، بل يجب التفكير في حلول استراتيجية طويلة المدى تشمل:
تطوير البنية التحتية للموانئ المصرية.
تعزيز الأمن الملاحي في البحر الأحمر عبر تحالفات دولية.
تحسين الخدمات الرقمية المقدمة للسفن.
تقديم حوافز ضريبية وجمركية متكاملة.
خلاصة نقدية
قرار تخفيض رسوم عبور سفن الحاويات بنسبة 15% يعكس أزمة حقيقية أكثر مما يعكس سياسة توسعية ناضجة. ويبدو أن القناة لم تعد فقط تواجه تحديات طبيعية أو تنافسية، بل أصبحت في قلب أزمة جيوسياسية واقتصادية مركبة. ومن هنا، فإن الحل لا يكمن في خفض الرسوم، بل في إعادة صياغة الدور الاستراتيجي لقناة السويس في المشهد الاقتصادي العالمي سريع التغير.











