في خطوة وُصفت بأنها تاريخية، أعلنت السعودية والولايات المتحدة عن توقيع وثيقة الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية، مع وعود بضخ استثمارات سعودية هائلة في أمريكا تصل إلى 600 مليار دولار خلال أربع سنوات فقط. أرقام ضخمة وعناوين براقة، لكنها تفتح الباب أمام تساؤلات نقدية حول جدوى هذه الشراكة، وتوزيع المنافع، والمخاطر الحقيقية التي قد تترتب على الاقتصاد السعودي في ظل المتغيرات الدولية المتسارعة.
حجم التبادل
خلال السنوات العشر الماضية، تجاوز حجم التبادل التجاري بين السعودية وأمريكا 500 مليار دولار، بمعدل سنوي يقارب 50 مليار دولار. في عام 2024 وحده، بلغ حجم التبادل التجاري 32 مليار دولار، منها 13 مليار صادرات سعودية و19 مليار واردات أمريكية. أما الاستثمارات الأمريكية المباشرة في السعودية فقد بلغت 54 مليار دولار حتى نهاية 2023، أي ما يعادل 23% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية في المملكة. في المقابل، لم تتجاوز الاستثمارات السعودية المباشرة في أمريكا 9.5 مليار دولار، مع ذروة سابقة بلغت 14.3 مليار دولار فقط.
وتحتل السعودية المرتبة السابعة عشرة بين كبار حاملي السندات الأمريكية، بقيمة 126.4 مليار دولار، ما يجعل جزءاً كبيراً من الاحتياطي السعودي عرضة لتقلبات الأسواق المالية الأمريكية وقرارات الاحتياطي الفيدرالي.
هل هناك عوائد؟
السؤال الذي يفرض نفسه: هل ستعود هذه الاستثمارات الضخمة بعوائد مجزية على الاقتصاد الوطني أم أنها ستخدم الاقتصاد الأمريكي بالدرجة الأولى؟ تشير البيانات إلى أن معظم الاستثمارات السعودية تتركز في قطاعات النقل والعقارات والخدمات المالية والتقنية داخل أمريكا، وهي قطاعات تسيطر عليها شركات أمريكية عملاقة، بينما تتركز الاستثمارات الأمريكية في السعودية في مشاريع استراتيجية ضخمة تخلق وظائف وتنقل بعض التقنيات للمملكة.
الحقيقة أن السعودية ما زالت سوقاً ضخمة للمنتجات الأمريكية، بينما تظل استثماراتها في أمريكا رهينة لمخاطر الأسواق المالية وتقلبات السياسة الأمريكية. ورغم أن الحكومة السعودية تروج لهذه الشراكة كجزء من “رؤية 2030” لتنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط، إلا أن الأرقام تكشف أن معظم التبادل التجاري والاستثماري لا يزال يتركز في قطاعات الطاقة والصناعات التقليدية، مع بطء في توطين التقنية والصناعات المتقدمة.
التحديات التي تواجه هذه الشراكة متعددة، أبرزها التقلبات السياسية والاقتصادية العالمية، والاعتماد الكبير على الدولار، ومحدودية نقل التقنية، وضعف الأثر المباشر على سوق العمل السعودي، حيث تخلق معظم الاستثمارات السعودية في أمريكا وظائف للأمريكيين وليس للسعوديين.
في النهاية، ورغم العناوين البراقة والأرقام الضخمة، تظل الشراكة الاقتصادية السعودية الأمريكية غير متكافئة في توزيع المنافع. السعودية تضخ مئات المليارات في الأسواق الأمريكية، بينما تظل مكاسبها الحقيقية رهينة لمدى قدرتها على فرض شروط عادلة لنقل التقنية وتوطين الصناعة وتحقيق عوائد ملموسة للاقتصاد الوطني. المطلوب اليوم مراجعة دقيقة لبنود الشراكة، وضمان تحقيق مصالح المملكة أولاً، بعيداً عن الشعارات والوعود غير المضمونة.











