مقالاً تبخّر من ذاكرتي!
بقلم: هدى أبوعمرة
قرأت منذ زمن مقالاً تبخّر من ذاكرتي بكل أسف، لكن عنوانه ظل عالقًا في ذهني: “فقر الفكر وفكر الفقر”. عنوان صادم بلا شك، لكنه يختزل مأساة فكرية واجتماعية تعاني منها مجتمعاتنا حتى اليوم.
يمثل “فقر الفكر” و”فكر الفقر” وجهين لأزمة واحدة، تتجلى في ضمور العقل وإحباط الطموح في آنٍ معًا. فـفقر الفكر لا علاقة له بالمادة، بل هو غياب القدرة على التفكير النقدي والإبداعي، والخوف من الأسئلة، والجمود أمام الجديد، والتسليم الأعمى للموروث. إنه فقر الوعي والانفتاح، والركود العقلي الذي يُبقي المجتمع أسيرًا للجهل والخرافة، ويجعل النهضة متعثرة ومؤجلة.
في المقابل، فإن فكر الفقر هو نتاج واقع مادي قاسٍ يتكرر يوميًا في حياة الملايين، حتى يتحوّل إلى قناعة راسخة بأن الفقر قدر لا مهرب منه، وأن الطموح رفاهية لا تليق بالفقراء. يولّد فكر الفقر ما يمكن أن نُسميه بـ”ثقافة اللامبالاة”، والخوف من التغيير، والاعتماد الدائم على الغير. إنه سجن من نوع خاص، سجن داخلي يحبس الإنسان داخل قيد نفسي، حتى إن تحسنت ظروفه يومًا، تبقى روحه أسيرة.
الخطير أن المفهومين لا يتحركان كلٌ في مساره، بل يتفاعلان داخل حلقة مفرغة: فقر الفكر يُعمّق فكر الفقر، وفكر الفقر يُكرّس فقر الفكر. المجتمعات التي تُقصي التفكير الحر، وتخاف النقد، وتُقدّس التلقين، لا تمتلك الأدوات اللازمة لمواجهة الفقر باعتباره مشكلة بنيوية. وفي المقابل، فإن المجتمعات التي ترزح تحت فكر الفقر تقاوم التغيير، وتخنق المواهب، وتتحاشى المبادرات، مما يُعزز ثقافة الاتكالية والركود.
في مجتمعاتنا، كثيرًا ما نخلط بين المفهومين، ونتعامل مع نتائجهما كما لو أنها أقدار سماوية لا سبيل لتغييرها. لكن الفهم الدقيق للفارق بين “فقر الفكر” و**”فكر الفقر”** ضروري جدًا لفهم جذور الأزمات التي نعيشها اجتماعيًا وثقافيًا واقتصاديًا.
التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، من داخل العقل لا من خارج الجيب. لن نُهزم أمام الفقر المادي ما لم نُهزم أولًا أمام فقر الفكر. ولن ننتصر على الجوع أو الجهل أو التبعية، ما لم نتحرر من السجن الذهني الذي يُعيد إنتاج الفقر جيلًا بعد جيل.
الطريق إلى الخلاص يبدأ بالوعي: وعي يُعيد الاعتبار للتعليم، وللفكر النقدي، وللقيمة الإنسانية الكامنة في كل عقل قادر على أن يسأل ويتحدى ويبتكر. ويحتاج إلى سياسات لا تكتفي بالدعم المؤقت، بل تبني الإنسان الحر القادر على كسر الدوائر المغلقة.
في النهاية، لا مفر من الاعتراف بأن الفقر الحقيقي هو ذاك الذي يبدأ حين يتوقف العقل عن الحلم، وعن التفكير. فكر حر، إرادة قوية، ووعي يتجاوز القيود… هذا هو طريق التحرر من فقر الفكر وفكر الفقر معًا.
هدى أبوعمرة
كاتبة صحفية مصرية تهتم بالشأن الثقافي والاجتماعي، وتكتب بانتظام في عدد من الصحف والمواقع العربية. تركز في مقالاتها على تحليل الظواهر المجتمعية من منظور نقدي وإنساني.










