في بلد كان يُطلق عليه ذات يوم “أم الدنيا” بات المواطن المصري غريباً في وطنه مسحوقاً تحت عجلات الغلاء والتقشف وسياسات تُدار من أبراج عاجية لا ترى الواقع إلا من نوافذ المؤتمرات والشعارات الخاوية. الدولة التي كان يُفترض أن تكون الحامية الأولى للمواطنين تحولت إلى خصم يقتطع من الخبز ويُحمّل الفقير مسؤولية الفشل بينما تُباع الثروات وتُرهَن مقدرات الأجيال القادمة عبر ديون ضخمة لا تنتهي.
أصدر البنك الدولي تقريراً حديثاً يكشف أن 66.2% من سكان مصر يعيشون تحت خط الفقر العالمي الذي يبلغ 6.8 دولارات يومياً أي ما يعادل أقل من 10 آلاف جنيه شهرياً حسب متوسط الصرف الحالي. هذا الرقم يعكس أن ثلثي الشعب المصري باتوا فقراء في بلد غني بالموارد ولكن فقير في الإدارة والعدالة.
الفقر لم يعد حالة استثنائية بل أصبح هو القاعدة التي يعيش عليها ملايين المصريين ممن يعملون بدوام كامل ولا يستطيعون تأمين الغذاء أو الدواء أو التعليم لأطفالهم. البطالة ترتفع التضخم يكسر أرقاماً قياسية والدولة تتحدث عن مشاريع قومية بمليارات الدولارات لا تنعكس على حياة الناس.
من المسؤول عن هذا التدهور؟
الإجابة تبدأ من سياسات بيع أصول الدولة تحت لافتة الإصلاح الاقتصادي التي طالت الموانئ والمصانع والأراضي والشركات العامة بأسعار لا تتناسب مع قيمتها الفعلية في السوق. هذه السياسات لم تُنعش الاقتصاد بل عمّقت الأزمة لأنها جردت الدولة من أدواتها الإنتاجية وتركتها تعتمد على الاستيراد والديون.
في الوقت ذاته توسعت الحكومة في الاقتراض الخارجي بشكل مفرط حتى تجاوز الدين الخارجي حاجز 165 مليار دولار بينما تستهلك فوائد القروض وحدها نصف إيرادات الدولة. هذه القروض لا تُستخدم في بناء صناعات أو دعم الزراعة بل تذهب لسد عجز الموازنة ودفع فوائد سابقة أو تمويل مشروعات استعراضية لا تُحقق عائداً.
الاقتصاد المصري يعيش ما يسميه الخبراء حالة من العمه إذ تُتخذ قرارات كبرى دون دراسات جدوى وتُنفق المليارات على مشروعات لا تخدم الاحتياجات الأساسية مثل التعليم والصحة. لا توجد شفافية ولا رقابة شعبية ولا محاسبة حقيقية والمواطن هو من يدفع الثمن في كل مرة.
الفقر المتزايد لا يعني فقط أزمات معيشية بل يقود إلى نتائج كارثية مثل ارتفاع الجريمة وانهيار التعليم وتزايد معدلات الانتحار وتفكك الأسر ونزوح الشباب إلى الهجرة بحثاً عن فرصة للنجاة.
كيف بدأت أزمة الاقتصاد المصري؟
بدأ التدهور الاقتصادي في مصر بشكل واضح منذ عام 2011، حيث أدت الاضطرابات السياسية والاحتجاجات إلى حالة من عدم الاستقرار تسببت في تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي، وتراجع الاستثمارات الأجنبية، وانخفاض احتياطي النقد الأجنبي. ومع غياب خطة واضحة للإصلاح، اعتمدت الحكومة على المساعدات المالية الخليجية المؤقتة لسد العجز، دون استثمارها في مشروعات إنتاجية تخلق فرص عمل حقيقية.
التحول الكبير وقع في عام 2016 عندما أعلنت الحكومة عن تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، والذي شمل قرارات شديدة التأثير على المواطن المصري، أبرزها:
تعويم الجنيه المصري في نوفمبر 2016، ما أدى إلى فقدان أكثر من نصف قيمة العملة المحلية.
رفع الدعم التدريجي عن الوقود والكهرباء، ما ضاعف أسعار الخدمات الأساسية.
فرض ضريبة القيمة المضافة بنسبة 14%، مما تسبب في ارتفاع أسعار السلع بشكل واسع.
رغم وعود الحكومة بأن هذه الإجراءات ستؤدي إلى تحسين الاقتصاد المصري وزيادة الاستثمارات، إلا أن الواقع أثبت العكس، حيث أدت تلك السياسات إلى ارتفاع غير مسبوق في التضخم، وانخفاض القدرة الشرائية، واتساع دائرة الفقر.
الخطأ الجسيم في استراتيجية الإنفاق تمثّل في توجيه مليارات الدولارات نحو مشروعات ضخمة غير إنتاجية مثل العاصمة الإدارية الجديدة وقطارات البنية التحتية، بينما تم إهمال القطاعات الحيوية مثل الزراعة والصناعة والصحة والتعليم، وهي القطاعات التي يعتمد عليها الاقتصاد المستدام.
وحتى عام 2025، تعاني مصر من ديون خارجية تجاوزت 165 مليار دولار، وعجز مزمن في الموازنة العامة، وانخفاض متسارع في قيمة الجنيه المصري، ما يجعل الوضع الاقتصادي المصري من الأسوأ في تاريخه الحديث. كل هذه المؤشرات تؤكد أن الأزمة لم تكن ناتجة عن ظروف خارجية فقط، بل نتيجة سياسات اقتصادية خاطئة اتبعتها الحكومة منذ سنوات.
متى يتوقف النزيف؟
الأمل لا يزال موجوداً لكنه مرهون بقرارات جريئة تبدأ بوقف نزيف الأموال ومراجعة السياسات الاقتصادية بالكامل والتركيز على الإنتاج المحلي وتحقيق عدالة توزيع الثروات وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطن. لا يُمكن انتظار نتائج مختلفة من نفس السياسات القديمة التي أثبتت فشلها.
ما يعيشه المصريون اليوم ليس قدراً بل نتيجة لخيارات سياسية واقتصادية كان من الممكن تجنبها لو تم الإنصات لصوت العقل والخبرة بدلاً من الصوت العالي والدعاية.











